ما بين المانيفستين… تحوّلات الفكر الأوجلاني من “الحضارة الديمقراطية” إلى “المجتمع الديمقراطي”

أحمد بيرهات

مقارنة فكرية – سياسية في ضوء بيان 27 شباط:

في محاولته لكسر الجمود الكامن في القضية الكردية، وبالتزامن مع الذكرى المئوية لبدء الانتفاضات الكردية ضد الجمهورية التركية (انتفاضة الشيخ سعيد بيران عام 1925م)، وكمحاولة مستميتة لفتح الباب المسدود أمام حلّ القضية الكردية، كتب السيّد عبد الله أوجلان، من سجنه في جزيرة إمرالي، بياناً بخط يده مكوّناً من ثلاث صفحات وباللغة التركية.

 وُجِّه هذا البيان إلى الرأي العام التركي والكردي والعالمي، محاولاً من خلاله سحب تركيا إلى مواجهة حقيقية على الأصعدة التاريخية والفكرية والسياسية والاجتماعية، متّخذاً عاملَي الزمان والمكان كأساس، خاصةً في ظل ولادة جديدة يشهدها الشرق الأوسط، وهي بأمسّ الحاجة إلى السلام المستدام عبر طرح باراديغما جديدة بعنوان “بيان السلام والمجتمع الديمقراطي”.

ومن الأهمية بمكان تحليل بيان السيّد عبد الله أوجلان، الذي قُرِئ في 27 شباط 2025م، ومقارنته بأفكاره الواردة في مجلداته الخمسة الصادرة عام 2009-2010م والتي تبنّتها منظومة المجتمع الكردستاني (KCK) بشكل رسمي وشكّلت الإطار النظري والفكري والاجتماعي والدفاعي لها.

إنَّ إعادة قراءة الأفكار السياسية والسوسيولوجية و”مانيفستو الحضارة الديمقراطية” لأوجلان من منظور التحوّلات التاريخية والواقع السياسي الذي تشهده المنطقة، وتناول شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع وفق نموذج تحليلي نقدي يتم من خلال ربط المانيفستين مع بعضهما بعضاً.

أسعى في هذا البحث إلى اعتماد أسلوب واضح في تفكيك موضوع الدراسة عبر محاور رئيسية مثل:

. مفهوم الأمّة الديمقراطية مقابل الدولة القومية.

. موقف أوجلان من العنف وعلاقته بالدولة التركية.

. الأبعاد التفاوضية للبيان.

ويأتي ذلك كمحاولة لفهم التحوّلات الفكرية دون تشتيت، وتحليل أفكار المانيفستين بشكل نقدي، مع التساؤل حول ما إذا كان البيان يمثل تنازلاً أم استراتيجية سياسية ذكيّة.

السؤال الأساسي هو: إلى أي مدى تتوافق أفكار بيان “السلام والمجتمع الديمقراطي” مع ما طرحه أوجلان في مجلّداته الخمسة “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”؟ وهل يمثل هذا البيان قطيعة مع رؤيته السابقة أم امتداداً طبيعياً لها؟ وكيف يمكننا المقاربة بينهما واستشراف ما يأمله أوجلان من خلال البيان الأخير؟

سنسعى للخوض في هذه المسائل عبر قراءة فكرية معمقة لكل من المانيفستين، لما لهما من تأثير فكري كبير، والقيام بحوار حيويّ يهدف إلى تأسيس وعي وخلق مفاهيم ديمقراطية تخدم حل قضايا المنطقة عموماً، استناداً إلى الأفكار المطروحة في مجلّدات أوجلان السابقة وبيانه الأخير، وما أثاره ذلك من جدل بين المؤيّدين والمعارضين فيما يخصّ مضمون البيان.

الدوافع الرئيسية في توقيت بيان 27 شباط 2025م

  1. الدراسة الفكرية والفلسفية لواقع المنطقة:

أوجلان، كمفكّر وفيلسوف، أدرك أنَّ التغيير حالة كونية وطبيعية (وأيضاً كوانتومية) ويجب إجراؤه وسط الصراعات والمعطيات القائمة دون تأجيل، متّخذاً من عاملَي الزمان والمكان منهجاً لا غنى عنه، وإلّا فإنَّ معركته الفكرية والسياسية في حل القضية الكردية وفق نموذج “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” ستخسر.

  1. الصيرورة التاريخية:

فرضت نفسها الآن ضمن الحروب والاضطرابات الجارية في الشرق الأوسط عموماً، منذ أكثر من عشرين عاماً، وفي السنوات الثلاث الأخيرة بشكل مكثف؛ مما يجعل البيان تحوّلاً فكرياً محضاً.

3.المفاوضات السياسية وإطار الحلول

يتّضح خلال البيان أنَّ “التوصّل إلى حلول صائبة في العلاقات الكردية–التركية وفق المنظور القومي والدولتي أمر مستحيل ما لم تُؤخَذ الاعتبارات الجيوسياسية والجيواستراتيجية للأناضول وميزوبوتاميا بعين الحسبان.” مانيفستو الحضارة الديمقراطية ص430

وهكذا سيفتح البيان الأخير المجال لمفاوضات سياسية جديدة لتجاوز الانسدادات الكردية–التركية وفتح الأبواب أمام الحلول التي تعثّرت في تجارب العقود الثلاثة الماضية وتُطبّق فعلياً على الأرض.

سواءً كان الدافع الأول أو الثاني صحيحاً أم لا، فإنَّ كليهما يُظهِر مهارة وواقعية في الطرح ومرونة سياسية، غير أنّه يثير مخاوف جدّية من الذهنية الحاكمة في تركيا التي قد تتردّد في إجراء منازلة فكرية وسياسية مع أوجلان وحزبه في حل القضية الكردية في ظل هذا المنعطف التاريخي المفصلي.

مفهوم الأمة الديمقراطية مقابل الدولة القومية

طرح أوجلان في مجلّداته الخمسة نموذج “الأمّة الديمقراطية” كبديل للدولة القومية التقليدية، معتبراً أنَّ الأخيرة ليست فقط غير واقعية، بل تخدم نظام الحداثة الرأسمالية، وتتعارض مع منطق التحرّر الديمقراطي المنشود لديه.

وقد ركّز في مجلداته على العمل لبناء نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية داخل الدول القومية بدلاً من المطالبة بالاستقلال السياسي الكامل، معبّراً عنه بـ “شبه الاستقلال الديمقراطي والسياسي استناداً إلى المبدأ الطبيعي أنَّه لا شيء في الكون مستقلّ بشكل كامل.”

ويطرح الحلّ في المجلد الخامس بأنَّ “(KCK – منظومة المجتمع الكردستاني) ليست دولة قومية كردية مقابلة للدولة القومية، فهو يرفض ذلك من حيث المبدأ، سواءً انضمّ الشعب الكردي إلى سقف دولة قومية (في حال التزامها بالديمقراطية) أو كان مستقلّاً بذاته، إذ إنَّ السيادة السياسية التي يُرضي بها الشعب الكردي تتمثّل في بناء إدارة ديمقراطية شبه مستقلّة. مانيفستو الحضارة الديمقراطية ص426

وهذا الطرح لا يقتصر على تركيا فقط بل يمتدّ إلى مناطق أخرى بأبعاد معرفية وتاريخية وسوسيولوجية عميقة.

وفي البيان الأخير، أشار أوجلان إلى أنَّ “الدول القومية المنفصلة، والاتحادات، والاستقلال الإداري، والحلول الثقافية، التي هي النتائج الحتمية للانجراف القومي المتطرّف، لا يمكن أن تكون ردّاً على علم اجتماع المجتمع التاريخي، إنَّ احترام الهويات والتعبير الحرّ عنها والتنظيم الديمقراطي والهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ترتكز عليها كل شريحة لا يتحقّق إلّا بوجود مجتمع ديمقراطي ومجال سياسي”، أي “الكينونة الديمقراطية للمجتمع”.  بيان السلام والمجتمع الديمقراطي

وقد جاءت دعوة أوجلان في بيان 27 شباط موجَّهة إلى حزب العمال الكردستاني للاندماج في المجتمع والدولة، متوافقة مع جوهر مفهوم الأمة الديمقراطية، إذ قال: “اتّخذوا قراراً بالاندماج مع الدولة والمجتمع “. بيان السلام والمجتمع الديمقراطي

ويمثّل هذا الطرح باراديغما (نموذج) مطوّرة في البيان الأخير؛ وتُشير إلى ضرورة التحوّل إلى النضال السياسي والمدني بدلاً من العسكري للحفاظ على التوازن الفكري والواقعية الثورية.

تحوّل مفهوم الكفاح المسلّح

كان حزب العمال الكردستاني بقيادة أوجلان في بداياته يتبع أسلوب الكفاح المسلّح لتحقيق أهدافه في بناء دولة كردستان المستقلّة وفق الأفكار الاشتراكية، كما تأثّر بالحركات التحرّرية، وبأجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي والانتفاضة الثورية المنتشرة في السبعينات في غالبية بلدان العالم.

ومع التغيرات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات وسيطرة القطب الواحد، ومع مواكبة التبِعات التاريخية لتلك التغيّرات، قام أوجلان بمراجعة شاملة لأفكار حزبه السابقة المبنية على استنتاجات داروينية وماركسية تعتمد على قانون “الحتمية” الرياضي، والذي يقف عائقاً أمام “الاحتمال والفرضية” الأساسية في علم الكوانتوم كشرط لاستدامة الوجود.

أجرى أوجلان قراءة نقدية لتلك المرحلة، وبشكل خاص مسألة التغير الثوري واتّباع أسلوب العمل العسكري كحتمية للوصول إلى الأهداف، ثم ركّز بعد اختطافه وسجنه في جزيرة إمرالي وسط بحر مرمرة على ضرورة التحوّل إلى نموذج جديد، وفق أسس وأبعاد التحوّل إلى الأمة الديمقراطية.

وتحديداً، تناول البُعد الثامن تحت عنوان “نظام الدفاع في الأمّة الديمقراطية”، وهو نظام يُعَدّ خاصية كونية وطبيعية ومجتمعية،” إذ يعتبر المقاومة التي يبديها كل عنصر في الكون للحفاظ على وجوده دفاعاً ذاتياً؛ ففي حال فقدان هذه المقاومة يفسد العنصر ويخرج عن كينونته ويتحوّل إلى عنصر آخر مغاير”. مانيفستو الحضارة الديمقراطية ص466

يمكن إسقاط هذا النظام الدفاعي على حالة المجتمع الكردي؛ نظراً للظروف الملموسة التي مرّ بها عبر التاريخ في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ظهر في بيان 27 شباط، وبشكل بارز، تمسّك أوجلان بموقفه المناهِض لاستمرارية العنف، حيث دعا إلى إنهاء القتال كلياً، وهو ما يتوافق مع أفكاره النظرية السابقة.

لكن النقطة الأكثر جذرية في البيان هي الدعوة الصريحة لإلقاء السلاح وحلّ الحزب لنفسه، إذ جاء في بيانه:

«كما يفعل كل مجتمع وحزب معاصر لم يتم إنهاء وجوده بالقوة طواعية، اعقدوا مؤتمركم واتّخذوا قراراً بالاندماج مع الدولة والمجتمع؛ يجب على جميع المجموعات إلقاء أسلحتها، ويجب على حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه». بيان السلام والمجتمع الديمقراطي

صرّح عضو وفد إمرالي، سري سريا أوندر، بعد قراءة البيان مباشراً على لسان أوجلان حول بند إضافي بالقول:

“نودّ أيضاً أن نشارك ملاحظة من السيد أوجلان أنّه وبعد عرض هذا البيان، إنَّ إلقاء الأسلحة وحلّ حزب العمال الكردستاني يتطلّب بلا شكّ الاعتراف بالأبعاد السياسية والقانونية والديمقراطية لذلك (من الدولة)”. وكالة فرات للأنباء 27-2-2025

وأفادت وكالة ميزبوتاميا للأنباء بهذا الخصوص بأنَّ هذا البند “استمرارية للدعوة وتم توثيقه ولم يُدرَج في النص نتيجة المناقشات المتأخّرة مع مسؤولين في الدولة والآليات ذات الصلة والعمليات المشتركة”. كما ذكرت وكالة فرات للأنباء على لسان عضوة وفد إمرالي بروين بولدان نقلاً عن أوجلان:

“في مكان لا يوجد فيه إطار قانوني، فإنَّ هذه الدعوة لا معنى لها، هذه هي النقطة التي يجب أن نركّز عليها جميعاً الآن”. وكالة فرات للانباء 4-3-2025

 إنَّ هذا البند يُعَدُّ أحد الشروط الأساسية لإلقاء السلاح.

الشروط والتحذيرات بيان “السلام والمجتمع الديمقراطي “

يحمل البيان بعض العبارات ذات الدلالات العميقة والجوهريّة، منها:

  1. «لن يكون للقرن الثاني من عمر الجمهورية استمرارية دائمة وأخوية إلّا عندما يُتوّج بالديمقراطية، ولا سبيل غير الديمقراطية للبحث عن النظام وتحقيقه».
  2. «يجب تطوير لغة فترة السلام والمجتمع الديمقراطي بما يتوافق مع الواقع».
  3. «التسوية الديمقراطية هي الطريقة الأساسية». بيان السلام والمجتمع الديمقراطي

الرسالة التحذيرية والبُعْد التفاوضي:

عندما يقول أوجلان: «القرن الثاني للجمهورية لن يستمر أخويّاً ودائماً إلّا بالديمقراطية»، فإنّه يضع شرطاً أساسياً لاستقرار تركيا الحالي والمستقبلي، إذ إنَّ الديمقراطية والاستقرار مرتبطان، وغيابهما يجعل السلام هشّاً؛ ممّا يشير ضمنياً إلى احتمال عودة الاضطرابات.

ويمكن اعتبار ذلك بمثابة “تهديد ناعم” للدولة التركية إذا لم تتحقّق الإصلاحات السياسية المطلوبة في هذه المرحلة.

كما يتّضح أنَّ الدعوة إلى إنهاء العنف ووضع السلاح جانباً وحلّ الحزب ترتبط مباشرة بتحقيق الديمقراطية، أي أنَّ أوجلان يقول: «نحن مستعدّون لإنهاء الصراع، ولكن فقط في بيئة ديمقراطية حقيقية.»

وهذا يُضفي على البيان بُعْداً تفاوضياً من خلال “المعادلة الأوجلانية”، حيث يُعطي تركيا خيار: الديمقراطية وحلّ القضية مقابل السلام، مع إبقاء باب الضغط مفتوحاً؛ فهو لا يطالب بحلّ الحزب فوراً، بل يربط ذلك بتطوّرات سياسية تُظهِر العمق الفلسفي والسوسيولوجي في طرح الحلول.

إعادة تنظيم حزب العمال الكردستاني والتحوّل الاستراتيجي

تُعتبَر دعوة أوجلان، عبر بيان “السلام والمجتمع الديمقراطي” لتأسيس الأرضية السياسية والقانونية لـ “إلقاء السلاح وحلّ حزب العمال الكردستاني”، بمثابة توجيه لإعادة تنظيم الحزب والتموضع من جديد، وإجراء التغييرات وفق أسس استراتيجية، ومن ثم بناء تنظيم سياسي اجتماعي ديمقراطي ذي أبعاد قانونية ودستورية تتّخذ المجتمع الديمقراطي كأساس والاندماج الكامل مع الدولة.

وهذا بالطبع يتطلّب إجراءات فعلية من الدولة التركية، وتصديق البرلمان على تعديل العديد من القوانين، تليها خطوات عملية من الطرفَين.

ممّا لاشكّ فيه؛ أنَّ الدعوة لإلقاء السلاح وحلّ حزب العمال الكردستاني (PKK) ترتبط بفتح مجال سياسي واسع ووضع الأسس لبناء مجتمع ديمقراطي؛ بحيث إذا استتبّ الأمن وانتشر السلم وأُرسيت دعائم الحل الديمقراطي المنشود، ستتم إعادة ترتيب موضع قوات الدفاع الذاتي لدى منظومة المجتمع الكردستاني (KCK)، ممّا يمثّل تحوّلاً استراتيجياً كبيراً.

كما يجب أن تتحوّل في هذه الأثناء عبارة “لتصمت الأسلحة ولتتكلّم السياسة” الواردة في رسالة نوروز 2013م إلى شعار يُرفَع مجدّداً ويُطبّق عملياً في المنطقة والعالم.

تاريخ العلاقات الكردية–التركية والتغيّرات الحاصلة:

من خلال مقارنة بسيطة، يمكن تشبيه الأجواء الحالية لتلك التي عاشتها المنطقة في الفترة ما بين 1500-1520 م خلال الصراع العثماني والصفوي على النفوذ، حيث وقف الكرد آنذاك إلى جانب العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول وأسهموا في حسم معركة جالديران عام 1514م، ممّا ساهم في ترجيح كفّة النصر لصالح العثمانيين ومهّد لرسم الحدود بين القوّتين لاحقاً.

يمكن القول أنَّ المكان واحد، لكن الزمان مختلف، إذ لم يعد الكرد كما كانوا سابقاً، وتغيّرت السياسة الدولية ومصالحها، لتسير بخطىً متسارعة نحو بناء وتطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد.

وفي هذه الأجواء، ووفقاً لقراءتنا ودراستنا الكرونولوجية التحليلية ذات البنية المعرفية، عُدَّ طرح السيّد عبد الله أوجلان في البيان الأخير خطوطاً عريضة لخارطة طريق جديدة لإصلاح المسار التاريخي الخاطئ.

من خلال مسيرته السياسية، أكّد أوجلان مراراً أنَّ القضية الكردية لا يمكن حلّها باستخدام العنف فقط، بل من خلال إعادة بناء العلاقة بين الشعبين الكردي والتركي على أسس ديمقراطية.

تناول أوجلان هذه القضية في المجلد الخامس من “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” بقوله: “يجب النظر إلى العلاقات الكردية–التركية التاريخية وفق منظور التكامل التاريخي”.

ولهذا؛ فقد عمل في الفصول المعنية على صياغة تعريف للسياق الممتدّ من معركة ملاذ كرد عام 1071م وحتى حروب التحرير الوطنية الناشبة في بلاد الأناضول وميزوبوتاميا خلال أعوام 1919–1922م، وقد تم تفنيده بين ليلة وضحاها من مؤامرة التطهير العرقي المطبّقة عام 1925م.

ويُقال إنّه لم تنشأ سيادة كردية بارزة أو نظام دولة كردية واضحة المعالم عبر التاريخ، وقد بُذلت جهود لتعريف مصطلح التكامل والاختلاف ضد هذه العقلية؛ فالسيادة مشتركة ومتكاملة في جميع المدنيات المتكوّنة في الأناضول وميزوبوتاميا.

كما يجب “توسيع آفاق المجتمع المدني الديمقراطي تدريجياً”، وهذا البيان سيلعب دوراً مساعداً في استدامة الحلّ السلمي والسياسي تأسيساً على ذلك.

“أمّا الحجر الذي يتعثّر به الحلّ السلمي السياسي فهو مشروع التطهير الثقافي المستور الذي تفرضه الدول على الكرد”. مانيفستو الحضارة الديمقراطية ص426-433

في بيان 27 شباط 2025م، يعزّز أوجلان هذه الفكرة بدعوته إلى إعادة روح التحالف والوقوف معاً بين الشعبَين الكردي والتركي، بدلاً من استنزافهما لبعضهما بعضاً بالكلام الفارغ.

حيث يقول:

«العلاقات الكردية–التركية، طوال تاريخ يزيد عن 1000 عام، اعتبر الأتراك والأكراد دائماً أنّه من الضروري البقاء في تحالف مع سيطرة الجانب الطوعي، من أجل الحفاظ على وجودهما والوقوف ضد القوى المهيمنة، وتتمثّل المهمّة الرئيسية في إعادة تنظيم العلاقة التاريخية التي أصبحت هشّة للغاية اليوم، بروح الأخوة دون تجاهل المعتقدات». بيان السلام والمجتمع الديمقراطي

يتّضح من هذه الكلمات مدى أهمية قراءة التاريخ ومرونته، كما يظهر الهدف الحقيقي من هذه الدعوة (بين سطور البيان) وهو سحب تركيا إلى المفاوضات مع الكرد-خطوة براغماتية- لتأسيس أرضية السلام، وذلك بتأكيد ضرورة تطوير لغة فترة السلام والمجتمع الديمقراطي بما يتوافق مع الواقع، واعتبار التسوية الديمقراطية الطريقة الأساسية لتحقيق ذلك، أي أنَّ الحلّ يكمن في الاعتراف المتبادَل والتكامُل داخل نظام ديمقراطي يحترم الحقوق الكردية.

التأثير الدولي للبيان ونقد الحداثة الرأسمالية

يُعَدُّ أوجلان ناقداً فذّاً لسياسات الحداثة الرأسمالية في جميع ما ورد في مجلّداته؛ إذ يرى أنَّ الدول الرأسمالية المهيمِنة تستخدم الشعوب والأقليات المظلومة كأدوات لخدمة مصالحها وتبرير تدخّلاتها، وتحتكر ثروات وموارد البلدان لخدمة مشاريعها.

كما يوجّه الاشتراكيين والكرد دائماً إلى ضرورة أن يكونوا فاعلين أساسيين في الشرق الأوسط على جميع الأصعدة، وأن يؤثّروا في محيطهم بدلاً من أن يكونوا أدواتٍ تُستخدَم في الصراعات الدولية.

وأشار أوجلان في مجلده الخامس إلى أنَّ:

«أول مبدأ لمناهضة الرأسمالية هو رفض صيغة الدولة القومية سواءً كانت باسم المضطهِدين أم باسم الأمم أو الشعوب المضطهَدة، والمبدأ الآخر للاتّسام بالاشتراكية هو الدفاع عن الوحدة المتكاملة المُعاشة مدى التاريخ، اعتماداً على الأركان الثقافية المشتركة في العلاقات الكردية–التركية». مانيفستو الحضارة الديمقراطية ص427

كما تطرّق أوجلان في البيان الأخير بشكل مباشر إلى المخاوف من استمرار التلاعب الدولي بالقضية الكردية، مشيراً – ضمنياً – إلى أنَّ إنهاء النزاع المسلّح وإجراء فعل التكامل والاندماج سيقطع الطريق أمام التدخّلات الخارجية حتى لا تستفيد منها الحداثة الرأسمالية.

ويتوافق ذلك مع رؤيته حول الحاجة المُلِحّة لتحقيق الإدارة الذاتية الديمقراطية كأحد الحلول المناسبة، من خلال تفعيل وتنشيط الذات الفاعلة بعيداً عن تأثيرات القوى الخارجية السلبية.

وقد أفاد أوجلان في البيان الاخير:

«لقد جعلت الحداثة الرأسمالية خلال مائتي عام الأخيرة من تفكيك هذا التحالف هدفها الرئيسي، وقد اعتبرت القوى المتضرّرة هذا الأمر خدمةً لأسسها الطبقية، وقد تسارعت هذه العملية مع التفسيرات الموحّدة للجمهورية». بيان السلام والمجتمع الديمقراطي

مدى توافق بيان 27 شباط مع الأفكار الأساسية لأوجلان

يبدو أنَّ البيان يتماشى مع التحوّلات الفكرية واستمراريتها كمبدأ جدليّ مرّ به حزب العمال الكردستاني عبر عدّة منعطفات تاريخية وفكرية منذ تأسيسه في سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن.

فقد قدّم الحزب رؤىً ومساهمات سلمية لحلّ القضية الكردية، بدءاً من المفاوضات مع الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال عام 1993م، مروراً بمفاوضات أوسلو 2008–2009م، ودوغما باخجا 2015م، مع إصرار دائم على مراعاة عاملَي الزمان والمكان كأساس لتحقيق الحلّ.

ومن المُحتمَل أن يتحقّق ذلك هذه المرّة بفعل التطبيق الفعلي لخارطة الشرق الأوسط الموضوعة من قبل الدول الكبرى والمؤثّرة على العالم أجمع.

ولمواكبة هذه المرحلة وحلّ القضية الكردية، طرح أوجلان مجدّداً نقاطاً ترتكز على الحلول السلمية والديمقراطية في تركيا والمنطقة، وتداعياتها الإيجابية على المنطقة عامةً.

وقد سبق هذا البيان إرسال رسائل لغالبية الأحزاب الكردية والتركية والمعنيّين بحلّ القضية، كما أبدى أوجلان استعداده الدائم للسلام والتخلّي عن العنف كأداة استراتيجية للوصول إلى أهدافه، مع وضع بُعْد الدفاع المشروع كأحد أبعاد التحوّل نحو الأمّة الديمقراطية.

ويُظهر ذلك نموذج الأمّة الديمقراطية كبديل عن الدولة القومية، مع التأكيد على ضرورة التوافق مع الدولة عبر وضع دستور ديمقراطي وتوزيع عادل للثروة.

وقد دعا أوجلان خلال بيانه الأخير، استكمالاً لأفكاره الواردة في مجلّداته الخمسة، إلى الاندماج مع الدولة بدلاً من مواجهتها.

الأهمية الفكرية والسياسية لبيان “السلام والمجتمع الديمقراطي”

يُشكّل البيان انطلاقة فكرية أكثر عمقاً، ويؤسّس للعودة إلى مجالس الحكمة والمعاني ذات الجذور الشرقية؛ فقد ركّز أوجلان في بيانه على تجاوز الديماغوجية والدوغمائية في ممارسة السياسة، مستخدِماً عبارات خلاصة قراءته وتجربته النضالية وبحثه الدائم عن يوتوبيا المجتمع الديمقراطي، الذي يمثّل الأساس في فلسفته وآلياته في حماية الوجود من خلال مواجهة القوى المعادية وغير السَّويّة التي تستهدف الطبيعة والإنسان.

كما استند في طرحه إلى ثقافة علم الاجتماع والمجتمع التاريخي، والتي ستتحقّق وفق نموذجه المطروح في حال بناء المجتمع الديمقراطي المنشود وفق المصلحة المشتركة لكلّ الشعوب والمكوّنات.

ومن وجهة نظر قارئ الأفكار الفلسفية والسوسيولوجية، ستُشكّل “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” الجديدة لأوجلان أرضية أبستمولوجية ووعياً تاريخياً ذا أسس ومعطيات سوسيولوجية متقدّمة؛ إذ أدرك من خلال تجربته في سجن جزيرة إمرالي أنَّ المجتمع الكردي والمجتمعات الشرقية الأخرى لابدّ لها من حماية وجودها بخاصية الدفاع، ولا يمكن الحفاظ عليها دون تأسيس أرضية قانونية وحقوقية وسياسية لها، لأنّها قضية وجودية لا تقبل التغافل أو النسيان في معركة الحياة.

ويبدو أنَّ أوجلان قد أشار إلى الاعتلالات الموجودة في الواقع المعاش، وأنّه عبر طرحه لكيفية إحلال السلام وبناء المجتمع الديمقراطي استخدم جُمَلاً قصيرة ذات كلمات جوهرية وعميقة كصيرورة تاريخية وسوسيولوجية، وحُكماً ستتّضح تفاصيلها في المستقبل إذا ما سنحت له الفرصة.

إنَّ الحلول الديمقراطية هي الطريقة الأساسية لحلّ القضية الكردية، كما أنَّ الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط لن تتحقّق دون تبنّي نموذج التنوّع والاختلاف والدفاع المشروع ضمن إطار قانوني وسياسي، مع إيجاد بؤر للمقاومة بأشكالها المتعدّدة لتحقيق العدالة والمساواة في كل مكان كحلقة متكاملة.

ويُعزّز ذلك أهمية إدراك دور المجتمع الديمقراطي كبديل للأنظمة السلطوية، وطريقاً نحو مستقبل يعمّه السلام والتعدّدية.

فالقناعة الراسخة لدى أوجلان هي: السعي والعمل والتوصّل إلى الديمقراطية العالمية كهدف وغاية في مواجهة الرأسمال المالي العالمي، مع حماية الوجود والحفاظ على حقوق الإنسان، وقد يستغرق ذلك وقتاً كافياً لإدراكه ثم تطبيقه على الأرض.

في النهاية يمكن التوصّل الى الخلاصة التالية؛ وهي أنَّ:

أوجلان يمتاز عن غيره من القادة والمفكّرين بثقة كبيرة بنفسه وبأفكاره، ويمتلك رفاقاً مخلصين، وقد انطلق منذ أكثر من ثلاثة عقود بحثاً عن حلّ سلميّ للقضية الكردية، ويدرك أنَّ قضية الديمقراطية في تركيا لا تقتصر على حدودها فقط.

وعلى هذا الأساس؛ يمكن تشخيص بيان “السلام والمجتمع الديمقراطي” من عدة نقاط:

  1. يدخل في خانة الفكر النقدي لمفاهيم الإطلاق والحتمية المناهضة للصيرورة التاريخية، مع إبراز أهمية فلسفة التغيّر؛ إذ تتخطّى الأفكار الواردة فيه الصراعَ الطبقي–القومي–الاجتماعي التقليدي، وتدعو إلى بناء نظام اجتماعي ديمقراطي لامركزي يتجاوز هيمنة الدولة القومية والسلطة المركزية.
  2. لا يشكّل تعارضاً كلّياً مع أفكار أوجلان الواردة في مجلداته “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، بل يمثل بداية لإعادة صياغة جذرية لمشروعه الفكري والاجتماعي والسياسي.
  3. يُعَدُّ البيان التحوّل الفكري الثالث لأوجلان، استناداً إلى تقديم الحلول الديمقراطية وتطوير أساليب تقديمها، من خلال نبذ وإبعاد الدولة القومية المقيتة، التي “انتحرت” في سوريا مؤخّراً.
  4. يُعتبر البيان “عَرضاً” مشروطاً يتضمّن تحقيق الديمقراطية والاندماج الكامل مع الدولة وفقاً لمانيفستو “السلام والمجتمع الديمقراطي”، وهو بمثابة رسالة تحذيرية للعقلية الحاكمة في تركيا تفيد بأنّه “لن يكون هناك استقرار طويل الأمد دون بناء الجمهورية التركية الديمقراطية”؛ ممّا يُظهر أنّه أكثر من مجرّد تنازلات أو تراجع عن الثوابت.
  5. من الناحية الفكرية؛ تتقارب الأفكار الواردة في “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، بمجلّداته الخمسة وبيان “السلام والمجتمع الديمقراطي”، مع نهج مدرسة ما بعد الماركسية، إذ ينتقدان الدولة القومية ويتجاوزان الصراع الطبقي التقليدي لتحليل كيفية التحرّر في علاقات القوى والبنى الاجتماعية وإعادة توزيع الصلاحيات والإنتاج داخل المجتمع، كما أشار أوجلان بمصطلح “علم الاجتماع التاريخي”، ونقد استراتيجية العنف والتنظيم الثوري الكلاسيكي، مع التركيز على تحرير المرأة ودورها الأساسي في التحوّلات المفصلية في المجتمعات، ممّا يجعله جزءاً من الفكر الإنساني الذي يعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية بعيداً عن العنف والهيمنة ويُسهم في إعادة التاريخ إلى نصابه الصحيح.

أراد أوجلان من خلال بيان “المجتمع الديمقراطي”، إعادة صياغة مشروعه الفكري والسياسي والاجتماعي المعنوَن بـ”مانيفستو الحضارة الديمقراطية” بشكل أكثر عمقاً وشمولاً، وتحويل الطاقة السلبية في تركيا والمنطقة إلى قوة بنّاءة، وتحويل الطاقة الكامنة لإرث شعوب المنطقة إلى حلّ ديمقراطي، من خلال حقيقة التنوّع والاختلاف الموجود في المنطقة، والانتقال بأشكال الدفاع المتعدّدة بحسب واقعية الطرح المقدّم أساساً للبقاء والحياة لشعوب المنطقة والتأسيس للسلام المُستدام.

وبناءً على ما تقدّم؛ فإنَّ الأيام القادمة ستكون حافلة بالمفاجآت على صعيد القضية الكردية والمنطقة بشكل عام، ونأمل أن تكون خَيِّرة.

المصادر والمراجع:

– مانيفستو الحضارة الديمقراطية “القضية الكردية وحل القضية الكردية”2010م.

– بيان السلام والمجتمع الديمقراطي25-2-2025م.

-وكالة فرات للأنباء27-2—4-3-2025م.

زر الذهاب إلى الأعلى