اللامركزية بوّابة الحلّ السوريّ
أحمد بيرهات

“قراءة في الواقع وإمكانات التحوّل الديمقراطي”
مقدّمة لا بدّ منها:
يمرُّ الشرق الأوسط بمنعطف تاريخي وإعادة رسم خريطته السياسية بعد مرور أكثر من قرن على اتفاقية سايكس- بيكو ومعاهدة لوزان، اللتَين أسّستا لنظام الدولة القومية؛ هذا النظام، الذي كان في البداية خادماً للرأسمالية العالمية، أصبح الآن عبئاً عليها في عصر العولمة في طورها المتقدّم، ومن هذا المنطلق جاءت تحرّكات القوى الدولية والإقليمية في بداية القرن الحالي لإعادة ترتيب الأدوار والمواقع القديمة بوظائف جديدة، بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية، وكان من أبرز محطّات هذا التحوّل إسقاط نظام البعث العربي العراقي السابق في 8-4-2003، ومن ثم إسقاط نظام البعث العربي السوري في 8-12-2024، وذلك بهدف خَلْق توازنات جديدة تشمل تقليص أدوار دول إقليمية ودولية مؤثّرة، مثل إيران وروسيا وتركيا، وتعزيز مركزية دولة إسرائيل، وإعطاء دور بارز للسعودية مستقبلاً (وهذا ملاحَظ في سوريا بعد المستجدّات الأخيرة).
شهدت سوريا منذ عام 2011 أزمة سياسية عميقة تحوّلت إلى صراع إقليميّ ودوليّ على أرضها، ومع تقدّم الأحداث برزت مسارات مختلفة لتحويل الصراع إلى أدوات تخدم القوى الكبرى؛ فإسقاط النظام السوري كان هدفاً استراتيجياً للعديد من الأطراف الدولية والإقليمية، إلّا أنّ المخاوف من اندلاع حرب أهلية شاملة “ربّما” دفعت إلى ترتيب تفاهمات غير معلَنة تهدف إلى انتقال سَلِس للسلطة في دمشق.
الآن؛ ووفق المستجدّات التي تجري في منطقة الشرق الأوسط ووفق حسابات الربح والخسارة فيها، والصراعات المختلفة المستمرّة في الشرق الأوسط بمراحلها العديدة، ابتداءً من تأسيس الدول القومية في المنطقة وتقطيع وتوزيع الجغرافيات على الدول المنتصرة في الحربَين العالميّتَين الأولى والثانية، وتسليط نُظُم عليها ترتهن للخارج لأجل بقائها وتعمل لصالح الرأسمال العالمي، عند انقطاع دور تلك النُّظُم تزول ويُقتَل أو يهرب رؤساؤها دون اكتراثٍ لمصير شعوبها جرّاء سياساتهم (مجازر الساحل أنموذجاً).
يظهر في سوريا جلياً حقيقة أنّ الشرق الأوسط قد أضاع، جرّاء الأحداث والمستجدّات الأخيرة، الكثير من أصالته ونهضته التاريخية الكبيرة، ودوره المقدام في الحضارات الإنسانية المتلاحقة، وصولاً إلى حالة الضعف الشديد الذي يظهر للعيان في الربع الأول من هذا القرن.
بعد سقوط نظام البعث في سوريا، تغيّرت المجريات والمعطيات المؤسِّسة لهذه التطوّرات بشكل واضح، ودخلت مرحلة جديدة؛ فكان لا بدّ من البدء بالتغيير وفق مقتضيات ومتطلّبات هذه المرحلة، والسير وفق خريطة الشرق الأوسط التي وضعتها ورسمتها الدول المؤثّرة والقوية في العالم، مع استقطاب مكانٍ خاصّ فيها، ونشهد تسارعاً للأحداث يوماً بعد آخر بشكل مكثّف، وعُقدت بشأنها لقاءات متعدّدة في البلدان العربية وتركيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وما زالت تلك اللقاءات مستمرّة، حيث أجرى أسعد الشيباني، وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية (المؤقّتة)، زيارات إلى عدّة دول في محاولة لكسب الشرعية لحكومةً لم تُنتخَب مباشرةً من الشعب، وتعيش تلك الحكومة حالة اختبار من جميع الأطراف الإقليمية والدولية، نتيجة الخلفيات المتطرّفة لشخصيات موجودة ضمن تشكيلة هذه الحكومة.
جاءت هذه التطوّرات نتيجة الوهَن الذي أصاب نظام الأسد البائد؛ فالأخير لم يؤسِّس جيشاً وطنياً يدافع عن مؤسسات الدولة، ولم يخدم شعبه لتحقيق متطلّباته في العيش الكريم والحياة السعيدة، ويرجع انهياره بهذه السهولة إلى سببَين رئيسيَّين؛ هما:
- المركزية المفرِطة في حكم البلاد.
- الرهان والتعويل على الخارج، والعمل وفق أجندات الدولتَين إيران وروسيا، واللتَين تكبّدتا هزيمةً مدمّرة في سوريا مؤخَّراً.
كل ما أوردناه في مقدّمتنا يفتح الباب، بحسب الكثيرين، أمام طرح سؤال مركزيّ حول أهمية تطبيق النظام اللامركزي كحلّ في سوريا؛ فهذا النظام (اللامركزي) يعني: “نقل سلطة اتّخاذ القرار من الحكومة المركزية إلى فروعها المحلّية” 1
أي أنّ اللامركزية هي نمط من أنماط التنظيم الإداري والسياسي، يقوم على توزيع السلطات والوظائف بين مستويات متعدّدة من الحكم (المركزي والمحلّي أو الإقليمي)، بما يتيح مشاركة أوسع في اتّخاذ القرار وتحقيق كفاءة أعلى في إدارة الشؤون العامة.
يرى كثيرون أنّ اللامركزية هي أفضل وأكثر نماذج الحلّ ملاءمةً لسوريا المستقبل؛ لأنّها تعكس طبيعة المجتمع السوري متعدّد القوميات والثقافات والأديان والمذاهب، وستساهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ وانطلاقاً من هذه الأبعاد المتشابكة، يأتي هذا البحث في مفهوم النظام اللامركزي، مستعرضاً أنواعه ومضامينه النظرية، ومركِّزاً على دلالاته السياسية والاجتماعية كأداة لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع.
هذا البحث سيتّخذ طابعاً تحليلياً تجريبياً ومنهجاً سوسيولوجياً، ويطرح الأسئلة التالية:
ما هو مفهوم اللامركزية؟ وما هي المقوّمات المتوفّرة لها في سوريا؟ وما طبيعة المكاسب في طرح نموذج اللامركزية للحلّ في سوريا؟ وما هي التحدّيات الموجودة أمام تحقيق السلام المُستدام فيها؟ كلّ ذلك دون أن نتغافل عن تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، كإحدى أشكال اللامركزية والمطروحة بقوة كأنموذج يلقى قبولاً كبيراً، وهل ستكون اللامركزية هي الحلّ الأنسب في سوريا المستقبل؟ سنبحث في كل هذه العناوين والتساؤلات وفق قراءة ملموسة وواقعية.
مفهوم اللامركزية:
يُعَدُّ مفهوم اللامركزية أحد المحاور الجوهرية في النقاشات المعاصرة حول أنماط الحوكمة الحديثة؛ كونه يُجسّد تحوّلا هيكلياً في بنية الدولة من سلطة مركزية احتكارية إلى نظام أكثر مرونةً وتشاركية، فاللامركزية ليست مجرّد خيار إداري، بل تمثّل رؤية سياسية وتنموية تسعى إلى إعادة توزيع السلطة والموارد والمسؤوليات بين المركز والأطراف، بما يتيح مشاركة أوسع للمجتمعات المحلّية في صنع القرار، ويُعزّز من كفاءة الأداء الحكومي وعدالة التنمية.
تتجلّى اللامركزية في عدّة أبعاد رئيسية:
فهي إدارية عندما يتعلّق الأمر بتفويض السلطات التنفيذية.
وهي سياسية حين تُمنَح السلطات التشريعية والتنفيذية لمجالس محلّية منتخَبة.
وهي مالية عندما تُتاح للإدارات المحلّية صلاحية التحكّم بالموارد والميزانيات.
كما تُعبّر عن نفسها جغرافياً (اللامركزية الجغرافية) من خلال تنظيم الدولة على أساس أقاليم أو محافظات تتمتّع بدرجات متفاوتة من الاستقلالية (إدارة ذاتية).
وتتبلور ديمقراطياً حين تُبنى على مبدأ تقاسم السلطة وتعزيز المشاركة الشعبية.
تتفرّع اللامركزية إلى عدّة أشكال، منها:
- اللامركزية الإدارية:
“يقوم هذا النظام على أساس توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة وبين أشخاص الإدارة المحلّية في الأقاليم، ويتمتّع هؤلاء الأشخاص بالشخصية المعنوية المستقلّة، مع خضوعها لرقابة الحكومة المركزية.” 2
أي أنّها تعمل على نقل الوظائف التنفيذية من الحكومة المركزية إلى هيئات محلّية مستقلّة إداريًّا، مع بقائها خاضعة لرقابة السلطة المركزية.
- اللامركزية السياسية:
“هي أسلوب من أساليب الحكم، يتّصل بوحدة الدولة السياسية، فيتضمّن سلطة التشريع والتنفيذ والقضاء.” 3
أي أنّ اللامركزية السياسية تُقسِّم السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بين المركز والأقاليم، غالبًا عبر مجالس منتخَبة.
- اللامركزية المالية:
“تتمثل اللامركزية المالية في الإقرار بحق السلطات المحلّية اللامركزية في تأمين موارد ذاتية من مصادر يحدّدها القانون.” 4
أي أنّها تمنح السلطات المحلّية القدرة على إدارة مواردها المالية، وجباية الضرائب أو تخصيص ميزانيات مستقلّة.
- اللامركزية الجغرافية:
“تتمثّل في عملية توزيع السلطة بين أقاليم ومحافظات ومناطق القُطر الواحد التي تتمتّع بشخصية معنوية تُناط بمجلس محلّي ينتخَب مواطنو الإقليم جميع أو بعض أعضائه، وتكون له صلاحية وضع ميزانية مستقلّة واتّخاذ القرارات الإدارية المتعلّقة بإدارة المشروعات والمرافق العامة في حدود ذلك الإقليم أو المحافظة، ويُطلِق بعضهم على هذا النوع من اللامركزية الإدارة المحلية أو إدارة الأقاليم والمحافظات.” 5
فاللامركزية الجغرافية إذاً تُعدّ تنظيم الدولة على أساس وحدات إدارية إقليمية (كالأقاليم أو المحافظات)، تتمتّع باستقلال نسبيّ في إدارة شؤونها.
- اللامركزية الديمقراطية:
“هي مفهوم إداري سياسي مجتمعي يحقّق التحوّل الديمقراطي ويضمنه من خلال مشاركة فعلية للمناطق والسلطات المركزية على أساس مبدأ تقاسم السلطة، ويحقّق أقصى حدّ للتغيير الجذري الشامل في بنية النظام المركزي عبر صلاحيات محدّدة للمركز، وأخرى للمناطق التي تُدار ذاتياً، وآخرها عبر صلاحيات مشتركة ما بين المركز والإدارات الذاتية.”6
أي؛ تمثّل نهجاً شاملاً يربط بين الإدارة الذاتية الديمقراطية والمشاركة الشعبية الفاعلة في صنع القرار، ويقوم على تقاسم السلطة بما يضمن تمثيلاً عادلاً واستجابة حقيقية لاحتياجات المجتمعات المحلّية.
المقوّمات المتوفّرة لـ “اللامركزية” في سوريا:
يمكن تكثيف مقوّمات اللامركزية في سوريا في النقاط التالية:
- تنوّع المجتمع السوري (الإثني – المذهبي – الطائفي):
تتّسم سوريا بتعدّد مكوّناتها القومية والدينية (عرب، كرد، سريان، آشور، أرمن، شركس وغيرهم)، ولكل مكوّن خصوصيته الثقافية والاجتماعية، وقد تم قمع هذا التنوّع وتغييبه ضمن نموذج الدولة القومية المركزية.
وتضمّ سوريا طوائف متعدّدة؛ مثل السُّنّة والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين بمذاهبهم المختلفة، فهذا التنوّع الطائفي يحتاج إلى إدارة تضمن العدالة والمساواة في التمثيل والحقوق؛ وهو ما يمكن للّامركزية أن توفّره من خلال تقاسم السلطة والإدارة محلياً بما يخفّف من النزاعات ويعزّز التعايش.
تتيح اللامركزية لهذه المكوّنات المختلفة والمتنوّعة إدارة شؤونها الداخلية والذاتية ضمن إطار الدولة الواحدة؛ ممّا يعزّز التعايش المشترك بدلاً من الصراعات، وقد صرّح بذلك المفكّر الكردي عبد الله أوجلان في لقائه الأخير مع البرلماني عن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب في رها، وابن أخيه عمر أوجلان، بتاريخ 31 آذار بمناسبة عيد الفطر، ونشرته وكالة ميزوبوتاميا ونقلته وكالة هاوار بتاريخ 10/4/2025، حيث قال:
“يجب حماية حقوق وقوانين العلويين، يجب حماية حقوق الدروز وقوانينهم، ويمكنهم بناء أنظمة مشابهة للأنظمة التي أنشأها الكرد، ويمكنهم إقامة علاقات مع بعضهم بعضاً، وألّا يقبلوا بهذه الأساليب المشابهة لأساليب داعش.”7
- المعادلة الجغرافية – الاقتصادية غير المتكافئة:
تتّسم الجغرافيا السورية تاريخياً بعدم التوازن في توزيع الموارد والبنى التحتية؛ فالثروات الزراعية مثلاً تتركّز في حوران والجزيرة وعفرين، بينما النفط في دير الزور والحسكة، في حين تتركّز الصناعة في حلب ودمشق، فهذا الواقع يؤسّس لإمكانية أن تتولّى السلطات أو الإدارات المحلّية – الذاتية إدارة مواردها وتخطيط تنميتها بما يتلاءم مع احتياجاتها، أي توزيع عادل للثروة وتنمية ديمقراطية.
- انهيار النموذج المركزي وبروز بدائل مقبولة:
إنّ الصراع الذي تحوّل إلى أزمة مستفحلة منذ 14 عاماً قد أدّى إلى تفكّك سلطة الدولة المركزية في عدّة مناطق، وأدّى كذلك لتنامي الوعي الشعبي؛ ممّا أتاح ظهور نماذج حكم وإدارة محلّية بديلة، أبرزها تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، وقد مثّلت هذه التجربة تحوّلاً نوعياً من خلال بنية مؤسساتية تشاركية ومجالس منتخَبة تدير المنطقة على أسس سياسية – جغرافية، وتدير ملفّات الأمن والدفاع والعدالة الاجتماعية والتعليم المتنوعّ والاقتصاد المجتمعي دون تمييز؛ ما أثبت أنّ المجتمعات قادرة على إدارة شؤونها ذاتياً إن مُنحت الفرصة.
- المقوّمات الدستورية والتاريخية:
رغم الطابع المركزي الصارم للدولة السورية، إلّا أنّ الإرث الدستوري لم يخلُ من إشارات إلى اللامركزية؛ فقد شهدت دساتير أعوام /1920 و1930 و1950/ بعض ملامح اللامركزية (يمكن الرجوع إليها وهي متوفرة)، كما شهدت فترة الانتداب الفرنسي نماذج شبه فيدرالية، مثل دولة العلويين ودولة جبل الدروز؛ ما يدلّ على أنّ فكرة اللامركزية ليست بغريبة عن البنية السياسية السورية، رغم أنّها قد استُخدمت حينها لأغراض استعمارية، والدستور السوري اللاحق قد أشار إلى الإدارة المحلية، وجاء المرسوم /107/ لعام 2011 ليقرّ المجالس المحلّية المنتخَبة، وإن لم يُطبّق فعلياً بفعل الذهنية التوتوليتارية (الشمولية) الحاكمة.
- المناخ الدولي الداعم للّامركزية:
معظم المبادرات الدولية لبناء الدولة السورية تنطلق من نموذج لامركزي، كما توصي به مقرّرات جنيف والقرار الأممي /2254 / (الصادر عام 2015)، والذي يدعو إلى صياغة دستور جديد يضمن مشاركة كلّ المكوّنات السورية؛ وهذا ما يعزّز من فرص اللامركزية كخيار مدعوم دولياً وواقعياً.
ماهية المكاسب من طرح نموذج اللامركزية كحلّ في سوريا المستقبل:
ويمكننا تكثيفها على الشكل التالي:
- تفادي تكرار أخطاء المركزية المتطرّفة:
على مدار العقود الماضية، أدّت المركزية المفرطة إلى إنهاء الحياة السياسية في سوريا وتهميش مناطق عديدة، بالإضافة إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لذا؛ فإنّ توزيع السلطة على الأقاليم أو الإدارات المحلّية أو الذاتية سيساعد على تجاوز هذه المشكلات عبر منح الجهات المحلّية صلاحيات اتّخاذ القرارات الخاصة بها.
- مرونة في التعامل مع الأزمات:
في ظل الأوضاع الحالية التي تمرّ بها سوريا بعد سقوط النظام البائد، فإنّ أيّة إدارة لامركزية ستتيح مرونة في إدارة الأزمات، سواء على المستوى السياسي أو الأمني أو الاقتصادي أو الخدمي؛ ممّا يجعل الاستجابة للتحدّيات أسرع وأكثر كفاءة، ريثما يتم الاتفاق على النموذج الأنسب لمستقبل سوريا.
- ضمان وحدة البلاد ومنع الانفصال والتقسيم:
اللامركزية أو الفيدرالية لا تعني التقسيم بالضرورة (كما يدّعي بعضهم)، بل هي نموذج يهدف إلى توزيع الصلاحيات داخل الدولة الواحدة؛ فوجود إدارات محلّية ذاتية قوية سيُقلِّل من نزعات الانفصال إن وُجِدت أصلاً، ويمنح كلّ منطقة القدرة على تسيير أمورها دون الحاجة للانفصال عن المركز، ممّا يقوّي اللحمة الوطنية والتعاضد بين المكوّنات، ويعزّز الهوية الوطنية السورية الجامعة.
- تعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية:
سيفتح النظام اللّامركزي المجال لمشاركة أوسع للمكوّنات السورية في صنع القرار، حيث تُدار الشؤون المحلّية والداخلية من قبل ممثّلين منتخَبين من أبناء كلّ منطقة، ممّا يقلّل من الاستبداد والفساد، ويعزّز الشعور بالمواطنة الحقيقية (نموذج الديمقراطية المباشرة).
- تحقيق التنمية المتوازنة:
خلال فترة النظام السابق، تركّزت التنمية في سوريا بشكل كبير في العاصمة دمشق وبعض المدن الكبرى مثل حلب، بينما عانت مناطق أخرى من الإهمال، مثل الحسكة، ولتجاوز ذلك، تُعَدُّ اللامركزية حلّاً لتوزيع المشاريع التنموية والخدمات بشكل أكثر عدالة؛ ممّا يقلّل من الهجرة الداخلية ويخلق اقتصاداً أكثر توازناً.
اللامركزية في بُعدها الديمقراطي:
في إقليم شمال وشرق سوريا، تعمل الإدارة الذاتية الديمقراطية من خلال سياستها ونظامها ودبلوماسيتها والقيام بجولات متعدّدة ومكثّفة في الآونة الأخيرة شملت بريطانيا وفرنسا وأمريكا وعدة دول أخرى، لتعريف العالم بنظامها الإداري والمساهمة في إحلال السلام في ربوع سوريا، وتتويج مساعيها ببناء جمهورية ديمقراطية، وعلى هذا الأساس؛ تتواصل الإدارة محلّياً مع الأحزاب والقوى والشخصيات الفاعلة، وتُرسّخ نظامها المجتمعي تدريجياً، وهو ما قد يشكّل نموذجاً لسوريا المستقبل، فقدّمت رؤيتها للحلّ السياسي في سوريا عدّة مرّات؛ ففي 18-4-2023 قدّمَت مبادرة باسم “الحلّ السلمي للأزمة السورية” من تسع نقاط، وفي 16-12-2024 بعد سقوط النظام طرحت مبادرة للحوار الوطني من عشر نقاط، ومؤخّراً، عُقد اجتماع ثلاثي بين الإدارة الذاتية الديمقراطية ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتاريخ 18 شباط 2025، وتوصّلت الأطراف معاً إلى قرار الاندماج والمشاركة في تفاصيل الإدارة السورية الجديدة وفق ثماني نقاط، وقّع عليها الرئيس السوري للمرحلة المؤقّتة السيد أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي بتاريخ 10-3-2025، واللافت في الأمر خلال هذه الأحداث والتطوّرات الجارية هو المرونة والاتزان السياسي اللذَين تبديهما الإدارة الذاتية الديمقراطية في مواقفها مع الأطراف المؤثّرة على المستويات الداخلية والخارجية، ممّا ينبّئ بمستقبل متفائل.
خلال هذه الفترة أثبتت الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا قدرتها على قراءة المشهد السياسي بدقّة، كما أثبتت قيادة مكوّنات شمال وشرق سوريا، بتنوّعها، نحو تماسك أكبر في مواجهة التحدّيات، ومن خلال تبنّيها نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية (كنموذج لامركزي وديمقراطي) تمكّنت من تعزيز التلاحم بين المكوّنات المتعايشة، وإرساء نموذج للحكم الرشيد والقريب من الشعب (الاتفاقية التي أُبرمت بين المجلس العام لحيَّي الشيخ مقصود والأشرفية من جهة، واللجنة المكلَّفة المعيَّنة من جهة أخرى، والمتّصلة بالاتفاقية المبرَمة في 10 آذار 2025 بين السيّدَين الشرع وعبدي، قد شكّلت دعامة مهمّة لبناء سوريا المستقبل).
تُعَدُّ تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا محاولة عملية لتجسيد لامركزية ديمقراطية تتجاوز النموذج الكلاسيكي للدولة؛ حيث تُمارَس الإدارة كمفهوم أكثر منها كسلطة، وتُبنى شرعيتها من المشاركة المجتمعية على أساس التمثيل المباشر.
التحدّيات الموجودة أمام تحقيق السلام المُستدام في سوريا، والحلول المطروحة:
يمكن التقاط هذه التحدّيات في العناوين التالية:
- الحوار الوطني الشامل وصياغة دستور ديمقراطي:
بعد أن عُقد ما سُمّي بـ “المؤتمر الوطني” في دمشق في 4-5 شباط 2025، تمخّض عنه تشكيل لجان، إحداها لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد، وأُعلن عن “الإعلان الدستوري” في 13-3-2025، وأُعلن عن الحكومة السورية الانتقالية في 29-3-2025.
هذه التطوّرات أفرزت إجراءات أُحادية بفعل الذهنية الإقصائية، وتفصيل كل شيء على مقاسها؛ وهي خطوات لا تعكس تطلّعات ومتطلّبات مكوّنات سوريا المختلفة والمتنوّعة، لذا؛ بات من الضروري الاستمرار في الحوارات الوطنية الجادة، وإشراك جميع المكوّنات السورية دون إقصاء أحد، لضمان تمثيل عادل لجميع المكوّنات في القرار السياسي السوري المستقبلي، والإسراع في عقد مؤتمر وطني شامل، وهذا مطلب وطنيّ عاجل، تُطالب به كلّ القوى والأحزاب واتّحادات ونقابات المجتمع المدني والتنظيمات النسائية والشبيبة، من خلال تشكيل جبهة سوريّة واسعة وعريضة تتمخّض عنها لجان متعدّدة، منها لجنة حقوقية لصياغة دستور يعكس التنوّع السوري ويستند إلى القرار الأممي /2254/ مع أخذ المستجدّات الأخيرة بعين الاعتبار، وتُعَدّ هذه خطوات أساسية لتحقيق الاستقرار. وبطبيعة الحال؛ يجب أن يعكس هذا الدستور مبادئ العدالة والمساواة، ويضمن حقوق جميع المكوّنات، فسوريا بحاجة إلى نموذج جديد للحكم يقوم على اللامركزية والديمقراطية، ويتخطّى سنوات الظلم والاستبداد القاسية، ويقيم نظامًا نواةً خاصًا بها.
- إغلاق الأبواب وقطع الذرائع أمام التدخّلات الخارجية:
لعبت التدخّلات الخارجية خلال الأزمة السورية دوراً سلبياً، وشكّلت تهديداً دائماً لوحدة سوريا واستقرارها، وخاصة من جانب الدولة التركية، التي تحاول بشتّى السبل تطبيق مشروعها “الملّي – العثماني”، ويتحتّم وضع حدّ لهذه التدخّلات من خلال سياسات وطنية موحّدة، وإجراءات دبلوماسية قوية من قبل القوى والتنظيمات والمجتمع المدني والشخصيات الثقافية الفاعلة.
- حلّ القضية الكردية سيشكّل بوّابة التحوّل الديمقراطي:
إنّ حلّ القضية الكردية في سوريا يُعَدُّ مفتاحاً لتحقيق تحوّل ديمقراطي شامل، وتُقدّم الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا تجربة يمكن البناء عليها في مستقبل سوريا، كما أنّ تحقيق الاستقرار الإقليمي يتطلّب حواراً شاملاً بين الأطراف السورية، مدعوماً بإرادة سياسية حقيقية لحلّ القضايا العالقة، وقد توصّلت القوى والأحزاب الكردية في الآونة الأخيرة إلى اتفاق فيما بينها للحفاظ على النسيج السوري وتلاحمه، من خلال خطاب وطنيّ جامع، وبناء مؤسسات ديمقراطية متعدّدة.
السؤال المُلِحّ: هل يمكن أن تكون اللامركزية الحلّ الأنسب في سوريا المستقبل؟
كنّا قد تناولنا أشكال اللامركزية خلال فقرات هذا البحث، فمَن يتأمّل تاريخ سوريا يلاحظ أنّها تمثّل لوحة فسيفسائية جميلة، تشكّلت عبر آلاف السنين من تفاعل قوميات وشعوب ومكوّنات متعدّدة ومتنوّعة، وقد ازدادت ألقاً وروعة بفضل ما تحمله من تنوّع وثراء ثقافي وحضاري كثيف، ورغم ما مرّت به من مراحل متعاقبة وأنظمة حكم استبدادية وإمبراطوريات متتالية، ورغم ما عانته من تحدّيات جسيمة، فقد استطاعت سوريا أن تحافظ على هذا التنوّع، الذي ظلّ حيّاً رغم المعاناة والاضطهاد.
سعت المكوّنات المتعايشة إلى حماية وجودها من خلال التجمّع في مناطق أصبحت تُعرَف بها، مثل مدينة عفرين وكوباني وعامودا وغيرها من المدن الكردية، وبعض مدن الساحل ذات الغالبية العلوية، ومدن كحماة وحلب وإدلب ذات الطابع السُّنِّي، إضافة إلى كَسَب وحيّ الميدان في حلب ذي الغالبية الأرمنية، ومنبج التي يسكنها الشركس، وقد حدث هذا التشكّل نتيجة عوامل كثيرة؛ مثل سياسات الحكم المتعاقبة، والهجرات القسرية، والنزوح الناتج عن الحروب، والتغيير الديموغرافي، وغيرها من السياسات الممنهَجة، وبالنظر في مستقبل اللامركزية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، يمكن أن تتبلور ملامحها بوضوح أثناء انعقاد المؤتمر الوطني الشامل المرتقَب، وما قد يتمخَّض عنه من توافق على تطوير نموذج لامركزيّ يراعي الواقع السوري، وتجمع عليه مختلف الأطراف دون استثناء، نموذج يجمع بين الأشكال المتعدّدة للّامركزية، ويستند إلى خصوصية وثقافة كلّ منطقة، مع توزيع عادل للصلاحيات، يحفظ وحدة البلاد، ويحقّق العدالة والمشاركة الأوسع.
وبناءً على ما سبق؛ يمكن النظر إلى جميعة (تركيبة) اللامركزية السياسية والجغرافية، وتجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية كمدخل واقعيّ وضروريّ لإعادة بناء الدولة السورية بعد سقوط النظام المركزي الحالي، كجمهورية ديمقراطية.
فاللامركزية السياسية تتيح، كما مرّ معنا، نقل جزء من السلطات والصلاحيات من المركز إلى وحدات إدارية محلّية منتخَبة؛ ممّا يُعزّز من مشاركة المجتمعات المحلّية في صنع القرار، ويُمهّد لإرساء نظام ديمقراطي تعدّدي يعكس التنوّع المجتمعي السوري.
أمّا اللامركزية الجغرافية فتستجيب، كما ذكرنا، لحقيقة التوزيع المكاني للمكوّنات السورية، وتُسهم في إدارة هذا التنوّع بما يحفظ وحدة البلاد، ويمنع التهميش والإقصاء الذي عانت منه بعض المناطق تاريخياً.
أمّا تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية كواقع موجود على الأرض، فهي مجتمعية ومقبولة في كثير من جوانبها.
وبناءً على ذلك؛ فإنّ الجمع بين هذه الأشكال من نماذج اللامركزية سيُوفّر إطاراً مرناً وواقعياً، يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والجغرافية للمناطق المختلفة، دون أن يُخِلَّ بمبدأ المعادلة السوسيولوجية الحديثة القائمة على معادلة:
الدولة + الديمقراطية كحالة ديالكتيكية (جدلية) وصيرورة تاريخية وفق الحقائق الكوانتومية.
وبالرغم من التحدّيات الكثيرة، فقد أظهرت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا إمكانية نجاح نموذجها من خلال: منح المناطق خصوصية ذاتية في اتّخاذ القرارات الداخلية والمحلّية، والعقد الاجتماعي المُصاغ حسب التنوّع والاختلاف الموجود في مناطقها، ومرونة في إمكانية تعديله مع أخذ عاملَي الزمان والمكان بعين الاعتبار، والاكتفاء الذاتي الاقتصادي والتوزيع العادل للثروة، والدفاع الذاتي عن مناطقها وعن كل البلاد إن تطلّب الأمر، مع الحفاظ على وحدة البلاد، لذا؛ يجب تطوير هذه التجربة، وصقل بعض جوانبها، وإثراؤها بمشاركة المثقّفين والسياسيين ومراكز الأبحاث، وتعميمها على مناطق أخرى بطريقة تحقّق مصالح جميع السوريين.
وبالتالي؛ فإنّ تبنّي نموذج لامركزيّ سياسيّ – جغرافيّ – ديمقراطيّ قد يشكّل حجر الأساس لمرحلة انتقالية مستقرّة، وكتابة عقد اجتماعي جديد يشارك فيه كلّ السوريين، يتمخّض عنه دستور ديمقراطيّ متقدّم يُعيد الاعتبار للهوية التعدّدية لسوريا، ويُعزّز فرص السلام والتنمية والعدالة المستدامة، ويواكب المرحلة.
العودة إلى البدء:
بعد التطرّق إلى مدى أهمية اللامركزية كنموذج حلّ في سوريا، يمكن القول إنّها لم تعد مجرّد خيار، بل أصبحت ضرورة لا بدّ منها لضمان استقرار وسلامة عيش المكوّنات السورية في سوريا المستقبل، ومنع العودة إلى الاستبداد أو على الأقلّ تقليص دور المنتفعين من النظام المركزي.
وسيساهم هذا النظام بمشاركة سياسية لكلّ المجتمع السوري المتعدّد والمتنوّع والمختلف، كما سيساهم بتحقيق تنمية متوازنة بين مناطقه، وفي النهاية يمكننا القول إنّ المُلِحَّ في سوريا كأولوية، هو ضرورة إيجاد نموذج إداريّ لامركزيّ متقدّم يناسب الواقع السوري، ويحفظ وحدة البلاد، ويضمن حقوق جميع مكوّناتها ضمن دستور ونظام ديمقراطي شامل، ويُوقف التدخّلات والأطماع الخارجية، ويمكن لسوريا أن تتجاوز معضلاتها وقضاياها من خلال نموذج لا مركزيّ تعدّديّ، وتصبح نموذجاً لجمهورية ديمقراطية رائدة في الشرق الأوسط.
المصادر والمراجع
1.قاموس أكسفورد.
2.كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة سطيف.
- 3. مركز المرتضى للبحوث والدراسات – com.
- 4. المفكرة القانونية – legal-agenda.com.
- 5. المرجع الإلكتروني للمعلوماتية – net.
- 6. الموقع الرسمي لحزب الاتحاد الديمقراطي org
- 7. وكالة هاوار للأنباء
ملاحظة: سيلاحظ قارئ البحث تكراراً في بعض الجمل والمفاهيم، وهذا مقصود وآتٍ من خصوصية هذه الأبحاث التي تتطلّب هذا التكرار، لذلك اقتضى التنويه.