تركيا أمام مفترق الطرق

لم يكن النظام التركي منذ نشوئه على يد مصطفى كمال آتاتورك يسعى لإنشاء نظام جهوري ديمقراطي يقوم على مبدأ المساواة بين شعوبها على الرغم من مئات السنيين التي جمعت هذه الشعوب وتعايشت في أوقات السلم والحرب، فما تزال عقدة الكرد تشكل أبرز مخاوف الدولة التركية. فقد عملت الأنظمة التركية على إنهاء أي حركة كردية تعمل على تحقيق الديمقراطية وتحقق تطلعات الشعب الكردي في الحرية والمساواة وتعيد حقوقها الثقافية والسياسية. هذا العداء الذي تم زرعه في عقول الشعب التركي “الوجود التركي مرتبط بإنهاء الوجود الكردي” قد أثر على الوضع السياسي والاقتصادي التركي ولم تستطع الدولة التركية إنهاء حركة حرية كردستان بالرغم من عشرات العمليات العسكرية التي شنتها على معاقل الحركة وبدعم من حلف الناتو.
ومنذ حرب الخليج الثانية بدأت رياح التغيير “الرياح الغربية” تهب على منطقة الشرق الأوسط ليس من أجل تحقيق الديمقراطية في المنطقة بل لإطالة عمر سياسة التحكم بالمنطقة لقرن آخر. فلم تعد تلك الأنظمة التي تم إنشاؤها على يد بريطانية وفرنسا في أوائل القرن العشرين “اتفاقية سايكس بيكو” والتي تمخضت عنها دول قومية في المنطقة هذه الدول بعد مرور مئة عام على ظهورها لم تعد تجدي نفعاً للغرب بل أصبحت تشكل عبء عليها نتيجة لظهور متغيرات كبيرة على الساحة الدولية وبروز دول كبيرة منافسة للولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي الحالي.
تركيا تخشى أن تطالها رياح التغيير حيث تعتبر القضية الكردية من أبرز قضايا الشرق الأوسط والتي قد تعتمد عليها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لإعادة بناء شرق الأوسط الكبير، لذا تسعى الدولة التركية إلى إعادة رسم سياستها الداخلية التي كانت تقوم على الحرب والإبادة الجماعية نحو تحقيق سلام مع حركة حرية كردستان.
فقد عملت الأنظمة التركية بدل استخدام لغة الحوار وتحقيق السلام الداخلي على محاربة حركة حرية كردستان ومحاولة إنهائها بالوسائل العسكرية إلا أنها فشلت في ذلك. وكما أنها شاركت في المؤامرة الدولية ضد القائد عبد الله أوجلان دون أن تدرك انعكاساتها عليها وإن هذه المؤامرة التي شاركت فيها كانت محور رئيسي في رسم الشرق الأوسط الكبير حيث كانت هذه المؤامرة التي بدأت في 9 تشرين الأول عام 1998 والتي انتهت في 15 شباط عام 1999 بخطف واعتقال القائد عبد الله أوجلان، جزء من رياح التغير حيث ظن النظام التركي بأنه حقق أكبر انتصار تاريخي وإن الحركة ستتجه نحو الانتهاء، لكن الواقع كان عكس ذلك حيث أدرك النظام التركي في عام 2005 بأن الهوية والحرية الكردية ازدادت حيوية وانتعاشاً عما كانت عليه في الماضي، حيث عملت هذه المؤامرة على تكريس الصراع التركي الكردي وعلى إضعاف تركيا. وهو ما بينه القائد عبد الله أوجلان في مرافعاته بأن القوى المهيمنة أتبعت أسلوب أهرب يا أرنب، أمسكه يا كلب الصيد بحيث سيسقط الأرنب وكلب الصيد منهكين في هذه المطاردة وسينهمكان في نهاية المطاف بخدمة أربابهما دون قيد أو شرط. لقد كانت هذه الوسيلة الأكثر تأثيراً للتحكم بشعب ما، حيث يستفزون الشعب ضد الدولة من جانب، ويحرضون كليهما على سحق بعضهما بعض من جانب ثان. كما كانوا يقضون على من يرونه خطيراً باتباع الأسلوب نفسه”.
سياسة كسب الوقت
باتت دول الشرق الأوسط تدرك تماماً أن رياح التغيير قادمة لا محالة وبالأخص الدول التي لها علاقة بالقضية الكردية ” العراق وسوريا وإيران وتركيا” فرياح التغيير قد أحدثت تغييراً جذرياً في العراق من نظام مركزي بعثي إلى نظام اتحادي فدرالي وهي الآن في سوريا وهي متجهة نحو هذا التغيير ولم يبقى سوى دولتان إيران وتركيا. ولكسب الوقت أو حتى وضع سداً أمام هذه الرياح، تعمل الدولة التركية على احتواء القضية الكردية واستغلال رياح التغيير لخدمة أجندتها الاستعمارية من خلال فرض نفسها وصية على الكرد “الأخوة التركية الكردية”. فالسياسة التي تنتهجها دولة الاحتلال التركي عن طريق دولت بهجلي زعيم الحركة القومية وبدعم من حزب العدالة والتنمية التركية قد لا تشير إلى رغبتهم في إحلال السلام وإنما تقوم – ومن خلال البروباغندا التي تنتهجها – في احداث شرخ بين الأحزاب السياسية الكردية وضمن الحزب الواحد وبالأخص في صفوف حركة حرية كردستان، كما تطمع في استكمال مشروعها العثماني في شمال وشرق سوريا ومنحها الشرعية لوجودها العسكري في المنطقة.
إن هذه السياسة إن كانت من أجل كسب الوقت لتحقيق اجندتها الخاصة بها فإنها ستؤدي بتركيا نحو الهاوية في نهاية المطاف، ويتحتم عليها من أجل الحفاظ على تركيا كدولة موحدة وقوية السير نحو تحقيق الجمهورية الديمقراطية.
تركيا أمام فرصة تاريخية
هل أدركت الدولة التركية خطئها الاستراتيجي في محاربة حركة حرية كردستان وإنها فشلت في إنهاء هذه الحركة وزادت من الشرخ في الداخل التركي أما انها تخشى أن تطالها رياح التغيير وتزيد من التبعية التركية للغرب فسلكت طريقاً وطنياً في تحقيق الأخوة التركية الكردية من خلال الانفتاح على القائد عبد الله أوجلان، أم أن هناك أجندة أخرى يعمل عليها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان والحركة القومية بزعامة دولت بهجلي مرتبطة بالدستور وبالانتخابات الرئاسية.
أياً كانت نوايا النظام التركي فهي الآن أمام فرصة تاريخية لوضع تركيا على المسار الصحيح نحو تحقيق الجمهورية الديمقراطية وقد لا تتكرر هذه الفرصة في المدى القريب أو المتوسط، إلا أن عليها اتخاذ خطوات تؤكد جديتها وحسن نواياها في هذا الاطار منها الحرية الجسدية للقائد عبد الله أوجلان ورفع صفة الإرهاب عن حركة حرية كردستان وإطلاق سراح المعتقلين الكرد هذه الخطوات ضرورية لفتح صفحة جديدة وتثبت نوايا الحسنة للنظام التركي تجاه الكرد، وعكس ذلك ستؤدي بالبلاد نحو مزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية خاصة إن كانت هناك نوايا خبيثة من قبل النظام التركي فالأقوال لا بد من أن ترافقها أفعال.
تركيا أمام خيارين لا ثالث
باتت القضية الكردية محور الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ومرور مئة عام على اتفاقية سايكس بيكو واتفاقية لوزان التي قسمت منطقة الشرق الأوسط وأوجدت أنظمة قومية بما يخدم مصالحها لكن المتغيرات الدولية خاصة في عشرين السنة أولى من القرن الواحد والعشرين أفرزت مجموعة من التحديات التي تهدد نظامها العالمي وباتت بعض الدول الشرق أوسطية تشكل عائق أمام مشاريعها الهادفة للحفاظ على هذا النظام العالمي وبروز الدور الإسرائيلي في المنطقة خاصة بعد السابع من أكتوبر، وبروز القضية الكردية عالمياً وفشل السياسة التركية المعادية للكرد، لا بد لتركيا أن تدرك تماماً أن رياح التغير قادمة “الربيع التركي” وهي أمام خيارين لا ثالث:
الأول أنه لا مجال لها إلا بالقيام بإصلاحات داخلية كبيرة وجذرية من خلال الانفتاح على حركة حرية كردستان بشكل جدي ومستدام وإطلاق سراح القائد عبد الله أوجلان والعمل على تغيير الدستور بما يضمن حقوق جميع الأقليات. رغم صعوبة هذه الخيار نتيجة معارضة بعض الأحزاب القومية الشوفينية لهذه الخطوة إلا أنها ستحمل تركيا إلى بر الأمان وتعيد بناء المجتمع والدولة على أسس جديدة، أكثر معاصرة واستيعاباً للحقائق.
الثاني البقاء على سياستها الحالية والتظاهر بأنها تسعى للتغيير من جهة لأجل كسب الوقت لتمرير مشاريعها تحت منطلق الأخوة التركية الكردية أو استلام ملف محاربة الإرهاب في المنطقة، ومن جهة أخرى لعقد صفقات مع الغرب بما يضمن حماية نظامها ومنع رياح التغيير من الوصول إلى تركيا مستغلة بذلك موقعها الجيوسياسي وعضويتها في حلف الناتو. هذا الخيار قد يتبعه النظام التركي حالياً إلا أن هذا الخيار قد تجلب لتركيا بعض الفوائد الآنية إلا أنها لن تحل المشاكل الداخلية التركية بل ستزيدها تعقيداً وتؤدي بتركيا نحو نفق مظلم. كون واقع التطورات والأحداث طوال هذه الفترة يظهر بوضوح أن مسألة الأقليات، ووعي أفرادها وتمسكهم بهويتهم، سوف تشكل عاملاً ضاغطاً بقوة على النظام في تركيا، وما لم يعمل النظام على حل مشاكلها الداخلية، فإن مسألة الأقليات في تركيا مرشحة لتتخذ أشكالاً أقرب ما يكون إلى العنف وقد تهدد أركان الدولة.
إن المتغيرات الدولية والإقليمية التي حدثت مطلع القرن الواحد والعشرين كسقوط نظام صدام حسين في العراق ومن ثم ربيع الشعوب التي أطاحت بعدد من الأنظمة العربية كالنظام القذافي في ليبيا ونظام مبارك في مصر ونظام عبد الله الصالح في اليمن وأخيراً نظام الأسد في سوريا وبروز الدور الإسرائيلي في المنطقة بعد السابع من أكتوبر إلى جانب المشاريع الغربية وبالأخص الأمريكية في المنطقة، هذه المتغيرات تضع تركيا في دائرة الدول التي قد تشهد مستقبلاً أزمات داخلية نتيجة حروبها الفاشلة ضد الكرد بدلاً من الانفتاح عليهم والوصول إلى سلام عادل تضع تركيا نحو الجمهورية الديمقراطية. فتركيا أمام مفترق طرق طريق نحو إعادة هيكلة النظام وإعادة صياغة دستور جديد يتوافق مع التنوع العرقي والديني والطائفي وتضع تركيا على درب الجمهورية الديمقراطية ويحفظ فيها النظام على مكانة تركيا الجيوسياسية. وطريق يتجه نحو مزيد من الدكتاتورية التي قد تراها الحل الأنجع في كبح تطلعات الداخل نحو نظام ديمقراطي. لكن ما يميز الدول القومية أنها لن تتنازل بهذه السهولة عن مكتسباتها التي بنيت عليها منذ قرابة المئة عام وترفض تغيير أسس النظام والحكم فيها.
ففي المرحلة الراهنة بدأ النظام التركي مباحثات مع القائد عبد الله اوجلان لتحقيق سلام شامل ينهي حرب استمرت لعدة عقود لم تستطع من خلالها إنهاء حركة حرية كردستان أو حتى إضعافها، فهل ادركت الأحزاب الحاكمة “حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية” أنه لا جدوى من محاربتها وإن طرق السلام يبدأ من إمرالي.
فتحليلات القائد عبد الله أوجلان بما يخص الدولة التركية قد أثبتت حقيقة الوضع التركي ومستقبلها، حيث أوضح القائد عبد الله أوجلان أن الجمهورية التركية ستكون أمام مفترق طرق، إما الاستمرار بنهج الإبادة، أو التوجه نحو حل القضايا العالقة ارتكازاً على أسس الوحدة الديمقراطية.
“ستَكُون الجمهوريةُ التركيةُ في القريبِ المنظور أمام مفترقِ طرقٍ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. فالجمهوريةُ التي وُجِّهَت في مرحلةِ التأسيسِ صوبَ الحربِ المناوِئةِ للكردِ على يدِ الإنكليز، سوف تَجِدُ نفسَها –مع الأسفِ الشديدِ– في خضمِّ مأزقٍ خانقٍ أشدّ حِدّة، من خلال عدائِها للكرد، والذي يُوَجَّه ثانيةً من إنكلترا بمَعِيّةِ حليفتِها أمريكا. وبالأصل، فقد مرّت العقودُ الثلاثةُ الأخيرةُ من سياقِ الجمهوريةِ الثانيةِ مشحونةً بالتخبطِ في هذا المأزق. أي إنّ ما جرى لَم يَكُن “حرباً منخفضةَ المستوى” فحسب. بل وكان يجسدُ تغلغُلَها وتحَلُّلَها حتى في أدقِّ خلايا القِيَمِ الاجتماعية. لقد تمَّ عيشُ تفسخٍ وتناثرٍ اجتماعيٍّ أشدَّ وطأةً بكثير من الانهيارِ أو التحلحل. ذلك أنّ الإرادةَ التي تنظمُ ذاتَها على شكلِ شبكةِ غلاديو، قد تُمثلُ أيَّ نظامٍ ظلاميٍّ كان؛ ولكنها لا يمكنُها أنْ تُمثلَ النظامَ الجمهوريّ. أما الإصرارُ على الحرب، فلا يُمكِنُ إلا أنْ يَكُونَ حملةً أخيرةً تُطلقُها الغلاديو. ولأجلِ تحاشي ذلك، يكفي إخراجُها من “غرفةِ العملياتِ” إلى النور. الطريقُ الثاني البائنُ في المفترقِ الذي ينتصبُ أمام الجمهورية، هو الطريقُ الذي سيتمُّ قطعُه بإعادةِ تعبيدِ أرضيةِ الجمهوريةِ بالوحدةِ الديمقراطيةِ التي شهدَتها حربُ التحريرِ الوطنية. ذلك أنّ ما جعلَ الجمهوريةَ جمهوريةً حقة، هو التحالفُ السائدُ في الحربِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ خلال أعوام 1919–1922. وقد أدى الطعنُ في هذا التحالفِ المناهِضِ للهيمنة في نهايةِ المآلِ إلى ضياعِ فرصةِ الجمهوريةِ الديمقراطية، وإلى تأسيسِ السلطاتِ التآمريةِ والفاشيةِ البدئيةِ والانقلابيةِ الغلاديويةِ والعصاباتيةِ بدلاً منها. ولكن، جليٌّ جلاءَ النهارِ أنّ هذا الطريق، الذي جُرِّبَ مراتٍ ومرات، وباءَ بالفشلِ في كلِّ مرة؛ لا يُمكنُ أنْ يَكُونَ الطريقَ الحقيقيّ للجمهورية. في حين إنّ طريقَ الجمهوريةِ الديمقراطية، والذي كان ينبغي السيرُ عليه منذ البداية، هو السبيلُ الوحيدُ لاستتبابِ السِّلمِ المجتمعيِّ وحلِّ القضايا العالقةِ في المرحلةِ المقبلة. وKCK ليس عائقاً. بل هو فرصةُ حلٍّ نفيسةٌ على هذه الدربِ التي تُعدّ آخِرَ فرصةٍ أمام حزب العدالة والتنمية AKP وحكومتِه”.