تركيا خرجت عن المسار

كانت الساحة السورية ولا تزال ساحةً للمفاجآت والأحداث المتسارعة، ولعلّ أعلاها صدى كان هجوم هيئة تحرير الشام بتاريخ 27/11/2024م، والذي انطلق من ريف حلب الغربي وانتهى به المطاف في قلب العاصمة دمشق ليعلن انتهاء حقبة من الحكم الديكتاتوري في البلاد، وما لفت الأنظار أكثر هو موقع تركيا من كل تلك التطوّرات المتسارعة، وهي التي حوّلت الثورة السورية الحقيقية في البدايات إلى حراك مسلّح عسكري، وغيّرت مسار التطلّعات المشروعة للشعب السوري بكافّة أطيافه من تحقيق الحرية والديمقراطية والعيش الكريم إلى تقسيم سوريا واقتطاع أجزاء كثيرة من جغرافيتها؛ وذلك تمهيداً لتحقيق الميثاق الملّي، حيث كانت تركيا ولا تزال تتوهّم أنّها قد تعرّضت للغبن جرّاء فقدان تلك الأراضي؛ وما برهن على ذلك هو تعليق العلَم التركي على أسوار قلعة حلب التاريخية وتأكيد ذلك من قبل الساسة والقيادات التركية وأقاربهم، إلّا أنّ الواقع شيء وما تزعمه الأبواق التركية ومرتزقتها شيء آخر.

الأطماع التركية العثمانية في سوريا تنتهك العهود والمواثيق الدولية:

كدولة في حلف الناتو وبوّابة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أوروبا تتجاوز تركيا خطوطها الحمراء في كثير من المناسبات، وتصرّح علانية أنّها امتداد للدولة العثمانية البائدة، والتي احتلّت المنطقة لأكثر من أربعة قرون سوداء، وقضت على الحضارات الأصيلة فيها لتزرع التطرّف الديني والمذهبي والعرقي بدلاً من التعايشات السلمية السائدة من قبل، ولا تزال الدولة التركية في صدد استمرار ذهنية “الميثاق الملّي” مطالبة بعدد من المدن والأراضي التابعة لدول ذات سيادة وإلحاقها بالدولة الفاشية التركية دون أيّ وجه حقّ، وتستغلّ في ذلك مرحلة الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط خاصة وعموم مناطق التوتّر في العالم، وبعد أن اغتصبت الساحل السوري الشمالي ومناطق إسكندرونة واعتبرتها جزءاً من الدولة التركية، بدت أطماعها بشكل واضح بعد دخولها في مناطق الشمال السوري ودعمها للمنظمات التكفيرية والجهادية للوصول إلى أهدافها بشكل غير مباشر، واستغلّت مشاعر الداخل التركي بأنّها تحارب حزب العمال الكردستاني في حدودها الجنوبية لتؤمّنها من الخطر القادم، وتارة تلعب على وتر عاطفة الشعب العربي وتبثّ الشائعات حول قيام كيان كردي مدعوم من الدول الإقليمية والعالمية، كما حاولت أن تربط حركة التحرّر الكردستانية بالجانب الإيراني والنظام السوري السابق؛ وذلك لتأليب مشاعر الفكر السلفي السُّنّي في العالم.

تركيا تمارس النفاق السياسي والكَيل بمِكْيالَين:

من يقرأ الأحداث الأخيرة وتطوّراتها سيصل حتماً إلى نتيجة وحيدة وهي أنّ تركيا قد باتت في وضع حَرِج على الساحتَين الداخلية والخارجية؛ فمن الناحية الداخلية بدأت الشعوب التي تعيش ضمن الدولة التركية بالنفور والانزعاج من تردّي الوضع الاقتصادي العام، وعدم وجود أي انفراج كما تزعم حكومة العدالة والتنمية، ففقدت ثقة الشعب واجتاحت تركيا موجة عارمة من الغضب والاستياء في ظلّ غياب العملية الديمقراطية تماماً عن ممارسات حكومة العدالة والتنمية، ولعلّ أبرزها هو الوقوف في وجه إرادة الشعوب في تعيين رؤساء البلديات في عدد من المدن التركية، أمّا من الناحية الخارجية فإنّ السياسة التركية المبنية على الكذب والنفاق لم تعد تجدي أي منفعة؛ لأنّ المصالح العالمية لم تعد تبالي بأكاذيب ونفاق الساسة الأتراك، وبشكل أدقّ؛ لم تعد للقوى العالمية أي مصلحة مع تركيا، لأنّها فقدت الثقة بنواياها وأهدافها الوضيعة، ومن الأمثلة الواضحة للعيان هو النفاق التركي بخصوص التقرّب من القضية الكردية ما بين النظري و على أرض الواقع؛ فمن الناحية النظرية يجمع الساسة والقياديّون الأتراك على أنّ القضية الكردية يجب أن يتم حلّها، ويجب أن يتم التفاوض مع حركة حرية كردستان، وتقرير مصير القائد عبدالله أوجلان، وأنّ الشعبَين الكردي والتركي يجب أن يتشاركا إدارة تركيا، أمّا من الناحية العملية فنرى عكس ذلك تماماً؛ حيث تقوم تركيا بإقالة رؤساء البلديات الكرد وتعييين أوصياء من حزب أردوغان في مكانهم، ومن جهة أخرى تهاجم عن طريق عملائها ومرتزقتها مناطق شمال وشرق سوريا؛ وذلك لضرب المشروع الديمقراطي وإعادة الفوضى والإرهاب إلى المنطقة التي عانت منها لأكثر من عقد من الزمان.

إقصاء تركيا من المشهد السوري نتيجة لسياستها وخروجها عن المسار:

لتضمن تركيا حصّتها في المستقبل السياسي لسوريا بعد أن وجّهت النواحي العسكرية والإعلامية لتحقيق مصالحها الاقتصادية وأطماعها التاريخية؛ بادرت منذ الأيام الأولى للحراك في سوريا إلى تشكيل مظلّة سياسية مزعومة للقوى العسكرية، وهي الائتلاف الإخواني المزعوم وسَعت إلى قبوله وإعطائه صفة رسمية لدى أغلب الدول في العالم، لكن وكنتيجة للسياسات التركية الرعناء وخروجها المستمر عن مسار تطلّعات الشعب السوري والقوى العالمية والإقليمية، وبناءً على التقارير المستمرّة عن الانتهاكات التركية الموثّقة؛ فقد أدى ذلك إلى فقدان ثقة أغلب الدول في العالم بتلك المظلّة المزيّفة، وهي أشبه ما تكون بـ”حصان طروادة”، لذا؛ فقد انحرمت الدولة التركية – بزعامة أردوغان وحزبه – من الحصص التي كانت موعودة بها، ويظهر ذلك جليّاً من خلال تخبّط أعضاء حكومتهم الموقّرة وعدم السماح لهم من الاقتراب من أي كيان سوري بعد رحيل الأسد، وقد تمّ سحب البساط من تحت أرجلهم بشكل تراجيدي واضح؛ وأوكِلَت المهمّة للحكومة السابقة وقيادة هيئة تحرير الشام المتجدّدة والمتغيّرة كلّياً عمّا كانت عليه، والدليل الذي لا يترك مجالاً لشكّ هو انطلاق عملية “فجر الحرية” التي تقودها الفصائل الإرهابية المدعومة من تركيا بعد انطلاق عملية “ردع العدوان” من قبل هيئة تحرير الشام، وما حدث من تجاوزات وكمّ للأفواه من قِبَل عناصر الهيئة؛ حيث تم إصدار بيان التهميش والاعتقال لعدد من عناصر عصابة “فجر الحرية” على يد عناصر هيئة التحرير، وما تفعله تركيا منذ اليوم الأول بعد سقوط حكم بشار الأسد في سوريا من تكالب وهجمات مكثّفة على المناطق الآمنة في شمال شرق سوريا، وبالتحديد في منبج، ما هو إلّا دليل واضح على مدى خيبة الأمل التي حظي بها أردوعان وأعوانه والخونة، ويكشف بشكل جَليّ ما تسعى إليه تركيا وأطماعها في أراضي الدولة السورية مستغلّة الظروف الراهنة.

قوات سوريا الديمقراطية هي البديل الأمثل للدفاع عن كامل التراب السوري؛ فلِمَ تهاجمها تركيا؟

إنّ الانهيار المفاجئ والكبير لتركيبة الجيش السوري تحتّم أن تكون هناك قوّة بديلة تدافع عن الوطن السوري وتحميه من كافة المخاطر الداخلية منها (كداعش ومثيلاتها) والخارجية كهجمات الدولة التركية وغيرها، وكلّ السوريين يعلمون مدى شجاعة وبسالة عناصر قوات سوريا الديمقراطية ومدى التزامها بالدفاع عن الأرض السورية دون أي تحيّز أو تمييز؛ فهي الأجدر أن تكون نواة للجيش السوري الجديد، ولِمَ لا وهي التي حمت الدولة السورية بدعم من التحالف الدولي من أعتى إرهاب شهدته البشرية في العصر الحديث وهو تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، واستطاعت دحره وتقويضه في عاصمته المزعومة (الرقة)، وطهّرت أغلب الأرض السورية من خطر تمدّد نفوذه، إلّا أنّ الهجمات التركية المستمرّة ومحاولة ضرب الأمن والاستقرار في المنطقة إنّما يدلّ على رغبة الفاشية التركية في عودة تنظيم داعش الإرهابي، والذي ساندته تركيا بشكل واضح في تأمين العناصر والسلاح وحتى المعالجة في المشافي التركية؛ ولهذا وجب على قوات التحالف، وخاص الولايات المتحدة الأمريكية، أن تكون متيقّظة لهكذا ممارسات تقود في النهاية إلى عودة داعش بشكل أقوى وإعادة رصّ صفوفه مستغلّاً الدعم التركي المباشر وكذلك الأوضاع الأمنية الهشّة على مستوى الدولة السورية كاملة.

المزاعم التركية في حماية أمنها القومي:

 إنّ الصورة الأبرز في تحرّكات الدولة التركية من أجل تصدير أزمتها الداخلية وتحقيق أطماع العثمانية الجديدة هو زعمها المستمر في الحفاظ على أمنها القومي واستغلال ذلك في تحقيق أهدافها الدفينة، وهنا السؤال المطروح هو:

لماذا لم تكن الدولة التركية قلقة على أمنها القومي عندما كانت قوات داعش تسيطر على معظم الشمال السوري؟ بل كانت حدودها مفتوحة على مصراعيها لدخول عناصر التنظيم القادمين من العمق التركي وعموم الدول العالمية، وقد ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ فقامت بمساعدة أفراد التنظيم من ناحية المعلومات وأيضاً التداوي في المراكز الطبية والمشافي على طول الحدود التركية – السورية، كما أنّ الدولة التركية -كما ذكرنا سابقاً – قد استقبلت على أراضيها جميع أطياف الإرهاب العالمي، وحاولت أن تكون المظلّة السياسية لهم بحجّة تشكيل حكومات للمعارضة المزعومة التي ضمت أغلب الشخصيات الإرهابية والمرتزقة والخونة، لتزجّ بهم في حروب إعلامية تهدف إلى النيل من المشروع الديمقراطي الذي تم بناؤه من قبل جميع أطياف الشعب السوري في مناطق شمال شرق سوريا، كما تهدف للقضاء على نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية، فمن الواجب الأخلاقي والإنساني أن يكون نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية هو الأمثل لإدارة الدولة السورية الجديدة؛ للوقوف في وجه الأطماع المحيطة والحفاظ على الأمن والاستقرار في جميع المناطق السورية، وإقامة علاقات حسن الجوار مع كافة الدول المجاورة دون استثناء، أمّا مزاعم الدولة التركية في حماية أمنها القومي فليست سوى “شمّاعة” تعلّق عليها أعمالها الترهيبية في المناطق الآمنة في شمال شرق سوريا.

ما ينقذ تركيا من مستنقعها هو العودة للمسار الديمقراطي الحقيقي:

لا شكّ أنّ حزب العدالة والتنمية الأردوغاني، وبذهنيته الفاشية الحالية البعيدة عن الديمقراطية والمفاهيم الإنسانية، لن يكون الحلّ للدولة التركية في وضعها المتأرجح هذا، وإن أرادت تركيا أن تكون في مصافّ الدول المتقدّمة والمستقرّة وتحمي نفسها من تقلّبات الأوضاع في الشرق الأوسط والعالم، فما عليها سوى العودة إلى الحلّ الديمقراطي والجلوس إلى طاولة الحوار الشعبي، فالحلول المؤقّتة للأزمات التي تمرّ بها الحكومة التركية الحالية في ظل هيمنة حزب العدالة والتنمية لن تكون البديل عن الحلول الجذرية والمنطقية للوضع التركي العام، وإن لم تغيّر الحكومة التركية من نهجها وسياساتها القمعية ذات الاتجاهات الشوفينية، وإن لم تستمع لنداءات الإصلاح والتغيير من قبل جميع أطياف المجتمع التركي – وفي مقدّمتهم الشعب الكردي – فإنّ مستقبلاً حالكًا ينتظر الدولة التركية وستكون النتائج كارثية ولا تُحمَد عُقباها، فمن الأفضل لتلك الحكومة أن تمدّ يدها للشعب الكردي وتجلس مع حركة حرية كردستان لمناقشة وضع القضية الكردية داخل تركيا دون استخدام أي فيتو في المحادثات، ولعلّ الخطوة الأهم في كل ذلك هو إطلاق سراح السيد عبدالله أوجلان والاستماع إلى خطّة الحلّ التي بحوزته قبل فوات الأوان.

 إنّ الشعب الكردي قد أثبت، ومنذ ولادة الدولة التركية، أنّه شعب جدير بالاحترام، وله باع طويل في بناء الدولة التركية والدفاع عنها ضدّ المخاطر التي كانت تواجهها آنذاك، ومن باب الوفاء بالمعروف وردّ الجميل كان لزاماً على الشرفاء في تركيا أن يسعوا إلى حوار وطني جادّ مع الشعب الكردي وممثّليه، وأيضاً لتجنيب تركيا الغرق في مستنقع القوقعة الذي تعيشه في هذه الفترة.

زر الذهاب إلى الأعلى