التعنّت الأحاديّ من جانب النظام يودي بسوريا إلى الهاوية

لم يستطع النظام السوري الخروج من القوقعة العروبية والقومية الضيّقة التي حصر نفسه داخلَها، فبعد مُضيّ أكثرَ من ثلاثة عشر عاماً على اندلاع الأحداث أو الأزمة أو الثورة (سمّها ما شئت) في سوريا، ما زال رأس الهرم يدور في حلقة مُفرَغة تماماً، ولايزال بعيدًا كلّ البُعد عن الواقع الرديء والمأساويّ الذي يعيشه الشارع السوري؛ حيث الانهيار التامّ للبُنية التحتية وغياب تأمين متطلّبات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء وخبز …إلخ، بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي المُتسارِع الذي أثقل كاهل المواطن الذي مازال متمسّكًا بأسمال الوطن؛ لقد فعل النظام كل ذلك للمحافظة على كرسيّه الشكليّ الذي من خلاله تتلاعب به القوى الإقليمية والدولية الفاعلة على الأرض، كما أنّ الشعارات الجوفاء التي أطلقها حزب البعث منذ أكثر من نصف قرن، حيث اللعب على أوتار العروبة ومناهضة الإمبريالية والصهيونية العالمية؛ قد جعلت من تطوّره في باقي المجالات حبيس زاوية ضيّقة لا يقوى على الخروج منها، وجعلته يحاصر نفسَه بنفسه ويتخندق تحت عباءات أيديولوجية ومذاهب دينية ضيّقة.

أكثر من عشرين جولة في أستانا كانت مجرّد مَضيَعة للوقت:

اعتُبِرت الأجواء العسكرية في سوريا مستقرّة نوعاً ما منذ اتفاق الخامس من آذار عام 2020م برعاية الدول المشاركة أو ما تُسَمّى (بالضامنة) في أستانا، عدا عن بعض المناوشات هنا وبعض الخروقات البسيطة هناك، إلّا أنّ ما عكّر صفو الأجواء خلال الأيام القليلة الماضية هو التقدّم غير المسبوق للقوى الإسلامية الراديكالية المتمركزة في إدلب، والمتمثّلة بما تُسَمّى بهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) والقوى والفصائل الإسلامية المتشدّدة المتحالِفة معها. إنّ اللافت في الأمر هو توقيت وسرعة التقدّم لهذه القوى مقابل انهيار تامّ للفصائل التي كانت متمركزة في هذه المدن، والتي كانت تابعة بشكل مباشر لإيران وحرسها الثوري، بطبيعة الحال؛ كل ما سبق كان نتيجة الضعف المادّي والمعنوي الذي لحق بهذه الفصائل جرّاء السقوط المدوّي للعمود الفقري لها في جنوب لبنان والمتمثّل بحزب الله اللبناني، وتصفية إسرائيل لقيادات الصفين الأول والثاني وكسر شوكته على الساحة الإقليمية بشكل خاص، وفي المقابل انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، هذان العاملان المباشران قد أسالا لُعاب الضامن الثالث “التركي” في انتهاز الفرصة لزجّ الفصائل التابعة له بشكل مباشر أو غير مباشر في معركة دموية ربما ستكون فاتورتها قاسية وكبيرة على جميع السوريّين، وبالتالي تجعل من أستانا وجولاتها المتلاحقة دون أية فائدة أو أيّ معنىً حقيقيّ.

تركيا تقامر في سوريا:

ممّا لاشكّ فيه أنّ تركيا قد اختارت هذا التوقيت الحرج كنوع من المقامرة الدولية، خاصةً بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية وفوز الرئيس السابق دونالد ترامب على حساب الحزب الديمقراطي؛ فهذا الفوز قد زاد من شراهة اليمين المتطرّف العالمي على التسارع في استغلال هذه الفترة الانتقالية التي يكون خلالها الرئيس السابق في مرحلة الانتهاء قبل بدء مرحلة الرئيس القادم، وبالتالي؛ تكون هذه المدة شبه ميّتة بالنسبة لاتّخاذ القرارات الهامة أو الدولية، وبالتالي؛ العمل بوتيرة عالية على بتر أذرع إيران في المنطقة وخاصةً في سوريا وبشكل أخصّ زاوية شمال غرب سوريا.

إنّ الصراع على النفوذ الإقليمي ما بين تركيا وإيران ليس وليد اليوم، بل إنّ الخلاف التاريخي يمتدّ إلى أبعد من الأزمة السورية الحالية أيضًا، حيث يمتدّ إلى الصراع ما بين السلطنة العثمانية والامبراطورية الفارسية كوجه، وأيضاً إلى صراع ما بين مذهب سُنّيّ تتبعه تركيا ومذهب شيعيّ تتبعه إيران، ويمكننا اختصار كلّ ما سبق من خلال اللقاء الأخير ما بين وزيرَي خارجية البلدَين في أنقرة ومدى شدّة التبايُن والاختلاف في الرؤى على جميع الأصعدة، وكذلك من خلال التصريحات شديدة اللهجة التي صدرت من طهران خلال اليومَين الماضيَين والتي أكّد الإيرانيون خلالها أنّ تركيا ستخسر ثقة إيران والإيرانيين على المدى البعيد.

لا يمكن “للمساحيق” أن تجمّل صورة الإسلام المتطرّف:

هيئة تحرير الشام التي تقود القتال الأخير هي بالأساس تشكّلت سنة 2017م من (تنظيم فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أبو محمد الجولاني أو (أحمد الشرع) كما عرّف عن نفسه مؤخّراً، وجبهة أنصار الدين وجيش السُنّة ولواء الحقّ وحركة نور الدين زنكي وبقايا جماعة زهران علّوش الذين تمّت تصفيتهم في الغوطة الدمشقية)، كلّ هذه الفصائل أو معظمها مُدرَجة على اللوائح السوداء لدى منظّمات حقوق الإنسان والمنظّمات الحقوقية بسبب سجلّها المليء بالتجاوزات اللاأخلاقية وغير القانونية، وفي كل الأحوال الإسلام المتشدّد أو الراديكالي هو وجه آخر لنفس العملة بالنسبة للأيدولوجيا القومية والعروبية المتشدّدة، وكما يبدو من خلال المتابعة لما يجري حالياً على الساحة السورية بالإضافة إلى الدعم المباشر من تركيا الأردوغانية، وبحسب التغطية المباشرة والمتسارعة والدقيقة للقنوات التلفزيونية التابعة للمملكة العربية السعودية، ومع وجود مراسليها في قلب الحدث ومرافقتهم المباشرة للمسلّحين، فإنّه يُستنتَج أنّ هناك دعمًا سعوديًا لهذه الفصائل، وبالتالي؛ تشكيل محور سُنّي على أساس محاربة الميليشيات الإيرانية الشيعية، وبذلك يتمّ توجيه وتحريف القتال باتجاه ومنحىً خطير آخر، ويتبيّن ذلك أيضاً بشكل أوضح من خلال ما جرى ويجري خلال اليومَين الماضيَين في كلّ من منطقتَي الشهباء وتل رفعت، وأيضاً في حيَّي الأشرفية وشيخ مقصود في حلب، من تهجير قسريّ وممنهَج على أساس القومية وتخصيص الكرد بذلك على أساس الهوية، يرادف ذلك – كتأكيد على ما سبق – تهجير أهالي البلدتَين الشيعيّتَين (نبّل والزهراء)، وبالتالي؛ تشكيل كيان على أساس مذهب سُنّي خالص في غرب الفرات أو شمال غرب سوريا كما يُراد له، وبالتالي؛ تقسيم سوريا جغرافياً وفرزها على أساس القومية والدين والمذهب.

المشاريع الدولية والإقليمية حول تقاسُم “الكعكة” السورية:

الولايات المتحدة الأمريكية هدفها الرئيسي هو إضعاف النظام الحالي قدر المستطاع، وكذلك قطع أذرع إيران وميليشياتها في سوريا، وإفشال المخطّطات الإيرانية ومشاريعها التي تهدف إلى ربط إيران عبر العراق بسوريا فلبنان، والتي تهدف بالأساس لوصول إيران إلى شواطئ البحر المتوسط والمياه الدافئة عبر مشروعها المتمثّل بالسكك الحديدية الإيرانية.

روسيا تحاول أن تُبقي النظام القائم لكي تستمرّ في قطع الطريق أمام المشروع العربي لنقل الغاز القطري عبر الأراضي السورية إلى أوروبا، بالإضافة إلى الاستفادة الاقتصادية والتجارية من موانئه في طرطوس واللاذقية على ساحل المتوسط.

إسرائيل هدفها الرئيسي هو خلق دويلات مُجزّأة في كامل المنطقة، وبالتالي؛ خلق نوع من الدول الضعيفة سياسياً واقتصادياً، بالإضافة إلى سعيها لخلق نوع جديد من الحلفاء وإضعاف أو القضاء على كلّ مَن يسبّب لها القلاقل، وعلى رأسهم أذرع إيران.

المملكة العربية السعودية هدفها الأساسي هو تغير النظام القائم؛ فيبدو أنّها لم تعد تثق به رغم إتاحة فرصة أخرى له قبل سنوات وإعادته لجامعة الدول العربية على أمل فكّ ارتباطه بإيران والعمل على عودة اللاجئين وخلق نوع من الحلحلة السياسية والاقتصادية في البلاد؛ لكن يبدو أنها قد فقدت الأمل من تحقيق كلّ ما سبق بسبب تعنّت النظام في معالجة المشكلة بنفس الطرق القديمة.

إيران جعلت من سوريا، كباقي الساحات التي تتواجد عليها أذرعها، ساحةً لتصدير صراعاتها الإقليمية والدولية، وكما هو معلوم فإنّ هدفها الأول هو ترسيخ العقيدة الشيعية، وإمكانية التخلّص أو التحايل على المجتمع الدولي للتنصّل من العقوبات الدولية بسبب حلمها النووي.

تركيا هي اللاعب الأساسي في المعضلة السورية؛ وذلك بسب القرب الجغرافي (المكاني) والتاريخ المشترك بينها وبين المنطقة العربية بشكل عام؛ فتركيا لاتزال مقتنعة بأنّ اتفاقياتِ ما بعد الحرب العالمية الأولى لم تُنصِفها لأنهّا كانت من بين الدول الخاسرة، ولاتزال تعتقد أنّ اتفاقية لوزان على – وجه التحديد – يجب تعديلها أو إعادة صياغتها بما يتناسب مع هواها الاستعماري؛ وذلك من خلال إحياء ميثاقها الملّي الذي يهدف للسيطرة على كلّ من مدينة حلب السورية، والموصل العراقية، وإعادة الخلافة السُّنّية وقيادة أنقرة للعالم الإسلامي، وخاصةً السُّني، في منافسة قوية مع كلّ من المملكة العربية السعودية التي تضمّ الأماكن المقدسة على أراضيها، ومع مصر التي تُعَدّ دولة محورية ضمن البلاد العربية وتضمّ جامعة الأزهر، يُضاف إلى كل ما سبق كيفية القضاء على حقوق الشعب الكرديّ وطمس هويّته في إقليم شمال وشرق سوريا، تحت ذريعة أنّ الكرد يهدّدون أمنها القومي.

الحلّ الوطني بديل عن كلّ ما سبق:

يُعتبَر النظام السوري القائم المسؤولَ الأولَ عن كلّ ما حصل ويحصل في البلاد؛ فبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عامًا على بداية هذه الازمة مازال متمسّكًا بنفس حُججه الواهية التي أطلقها، من حديث عن الوحدة والثوابت الوطنية ومجموعات إرهابية ومسلّحين …إلخ، كلّ ما سبق من تعنّت من جانب النظام القائم كان السبب المباشر لحالة الفوضى التي اجتاحت البلاد؛ ممّا جعلها أرضاً خصبة لدخول المتشدّدين والأجندات الإقليمية والدولية إلى الساحة، وقد قدّمت الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا أكثر من مرّة مبادراتٍ للحلّ الوطني الجامع دون أن تلقى تلك المبادرات آذانًا صاغية من حكومة دمشق ولا حتى ممّا تُسمّى المعارضة، وما اللقاءات التي كانت تتم أحياناً في السر وأحياناً أخرى في العلن أكثر من “ذرّ الرماد في العيون” وكسب المزيد من الوقت لا غير، ففي عام 2013م عندما كان هذا النظام في أسوأ حالاته ويترنّح يميناً ويساراً وكان آيلاً للسقوط، حينها لم يكم مستعدّاً لتقديم أي تنازل لشعبه، ولم يكن مستعدّاً كذلك للحلول الوطنية المقترَحة من الجهات أو المعارضات الوطنية، وكان يصنّف الجميع في خانة المؤامرة والتعاون مع الجهات الخارجية، اليوم أيضًا ورغم كلّ ما يجري في شمال غرب البلاد؛ حيث خسارة العاصمة الاقتصادية (حلب) وخسارة المزيد من الأراضي في وقت قياسي، لايزال النظام غير قادر على إخراج نفسه من قوقعة حلفائه من روس وإيرانيين، دون أن يبالي بأبناء شعبه من عرب وكرد؛ فهذا التعنّت أُحاديّ الجانب للنظام سيودي بسوريا إلى الهاوية.

زر الذهاب إلى الأعلى