الميثاق الملي العثماني يصطدم بصعود السلفيين

شهدت الأيام الأربعة الماضية تحوّلات دراماتيكية في الوضع الجيوسياسي لشمال غرب سوريا، تمثّلت بسيطرة الجماعات السلفية المنضوية في ما تُسمّى بعملية ” ردع العدوان” بقيادة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) على كامل ريف إدلب ومعظم حلب وريفها الغربي، مقابل احتلال المناطق الكردية من قبل مرتزقة الاحتلال التركيّ والمنضوين في ما تُسَمّى بعملية “فجر الحرية”، والذين هَجَّروا خلال الأيام الماضية أكثر من 120 ألف من الكرد من السكان الأصليين للمنطقة (الكثير منهم من الذين تم تهجيرهم عام 2018م بعد احتلال تركيا ومرتزقتها لـعفرين وريفها)، بالإضافة إلى قتل وتعذيب وخطف كلّ كردي وقع في قبضتهم، استناداً إلى شهادات مدنيين تم التواصل معهم هاتفياً، كما قاموا بفرض حصار على الأحياء الكردية في حلب (شيخ مقصود والأشرفية). تأتي هذه التحوّلات بعد انهيار منظومة القيادة في قوات النظام السوري لأسبابٍ أعادها بعض المحلّلين إلى محاولة إعلان انقلاب عسكري في دمشق تزامن مع توقيت انطلاق هجوم الفصائل، وربطها آخرون باتفاق بين النظام وروسيا وتركيا وبمباركة عربية وغربية في إطار عملية إخراج إيران من سوريا، إلّا أنّ أغلب التحليلات اتّجهت إلى أنّ هناك بداية تحوّل جديد في المقاربة الدولية تجاه الأزمة السورية بعد الجمود في عملية المفاوضات السياسية لإنهاء الأزمة.
برزت الكثير من الآراء بخصوص هذه التحوّلات، إلّا أنّها همّشت البُعد التاريخي في تطوّر الصراعات، والذي يستند في بعض حيثياته، وكمراعاة للعوامل الذاتية والموضوعية في تفسير التاريخ السياسي، إلى إسقاط نظرية ” أثر الفراشة” (نظرية الفوضى) ( ) على المُجريات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة، حيث يمكن من خلالها تحديد علّة الأزمات التي تشهدها بلدان الشرق الأوسط من خلال عاملَين اثنين هما؛ الأول: فشل السلطنة العثمانية في القيام بنهضة حضارية بعد القرن الثامن عشر، والثاني: إنشاء الدول القومية بعد الحرب العالمية الثانية. تسبّب هذان العاملان ببروز أيديولوجيات متخالفة ومتنازعة، انشقّت بعضها عن بعض، كأيديولوجيات الإسلام السياسي، أو تم استيرادها من أوروبا، كالأيديولوجيات القومية الشوفينية؛ حيث تسبّبت طوال مئتَي سنة بتصدّع في بنية مجتمعات الشرق الأوسط وتنامي خطاب الكراهية، ويبدو أنّ آثارها الهدّامة قد انتشرت حول العالم.
من المعلوم أنّ كل مرحلة سياسية شهدتها مئتَي السنة الماضية قد تميّزت بخصوصية فكرية نسبية تبعاً للنهج الذي كانت تتّبعه الأنظمة الدولتية في علاقاتها الداخلية والخارجية، ومعظم المراجع والمصادر التاريخية تطرّقت كثيراً إلى بروز الحركة الوهابية (*) في الجزيرة العربية كنقطة البداية في نشوء معظم الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتزمّتة مَذهبياً، والتي يعتبرها كثيرون عناصر فاعلة في نظرية الفوضى؛ كونها قد لعبت دوراً في تشكيل مسار الأحداث السياسية التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن، وذلك من خلال صراعها الأيديولوجي مع القوميين والليبراليين والشيوعيين والحركات السياسية لدى الطائفة الشيعية.
إنّ البُعد الأيديولوجي في الصراع الذي شهده الشرق الأوسط في القرن الثامن عشر مع حضور القوّتين الرئيسيتين في تلك الفترة (بريطانيا وفرنسا) قد تمثّل بكلّ من:
 الصراع بين الحركة الوهابية – السعودية والسلطنة العثمانية التي اعتمدت على الطرائق الصوفية.
 النهج الذي اتّبعه محمد علي باشا، الوالي العثماني الطموح والحاكم الفعلي لمصر في تلك الفترة والمتأثّر بالنهضة الأوروبية، في صراعه مع السلطان العثماني والحركة الوهابية – السعودية عام 1813م.
 الدولة الأفشارية (1729-1747م) ومن بعدها القاجاراية (1795م- 1921م) الشيعية.
وقد تم القضاء على الانتفاضة الأولى لهذه الحركة بالتعاون بين الأطراف المحلّية الثلاث، حيث يُعَدّ الوهابيون أسلاف السلفيين الحاليين، وهم الذين طعنوا في شرعية الخلافة العثمانية من السُنّة وكفّروا الشيعة ورفضوا الانفتاح الثقافي على الغرب، وكان لهم دور بارز في ظهور الجماعات السلفية اللاحقة، ولا يزال لفكرهم تأثير كبير على التنظيمات السلفية الجهادية. في العقد الثاني من القرن العشرين تم إنشاء جماعة الإخوان المسلمين؛ كردّة فعل على انهيار السلطنة العثمانية وصعود السلفية في الجزيرة العربية، ولم تكن علاقتهم مع السلفيين ودّية، وبرزت خلافات مذهبية بينهم، وانضمّ الكثير من قادة الجماعة للحركة السلفية؛ مثل عزام والظواهري وغيرهما.
استناداً إلى ما سبق؛ فإنّ السلفية الحالية المتمثّلة في أيديولوجية كلّ من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) والقاعدة وداعش تمتاز بمقاربة خاصة بها تجاه مسألة الخلافة الإسلامية أو الحكم الإسلامي، وتختلف تلك المقاربة – إلى حدّ ما – عن المقاربة التركية والإخوانية، وذلك من خلال تأكيدها على الهوية العربية القريشية للخليفة؛ فالجولاني – مثلاً – يمتلك شجرة نسب توصله إلى آل البيت( )، ويسعى لإقامة إمارة سُنّية عربية في بلاد الشام وبهوية سورية خَلْفَ واجهة حكومة الإنقاذ التي تحاول إظهار ليبرالية إسلامية في شؤون الحوكمة، كما أنّ داعش قد ألحق نسب “القرشي” بزعمائه، بالتوازي مع سعي الإسلاميين الأتراك وجماعة الإخوان إلى “عثمنة” المنطقة كمحاولة لإحياء الميثاق الملّي وتشكيل وسط اجتماعي سُنّي (تركي- عربي)، يتبع مذهبًا سياسيًا ودينيًا واحدًا ويتحدّث لغتَين اثنتَين، ويخضع لاقتصاد ناشئ من تحالف مالي مع طرف ثالث (قطر).
على الرغم من مشاركة تركيا في عملية السيطرة على حلب، رغم النفي الرسمي، وإطلاقها حملة أخرى بوساطة مرتزقتها تحت مُسمّى “فجر الحرية” ومحاولة الأتراك القيام بأمور رمزية “مؤدلجة” برفع العلم التركي فوق قلعة حلب، ومحاولة الاستخبارات التركية إقامة مقرّ لها داخل المدينة، استناداً إلى المعلومات الواردة من مصادر محسوبة على النظام السوري، إلّا أنّ المشروع الأيديولوجي لحزب العدالة والتنمية ((AKP المتحالف مع الإخوان المسلمين لا يتوافق مع مشروع جبهة النصرة؛ الأمر الذي يُعَدُّ مؤشّراً قويّاً على اصطدام مُحتمَل بين الطرفَين في حال تطوّر صراع النفود بينهما وتزايُد الدعم العربي السُنّي للجبهة، خاصة بعد مباركة “قاعدة الجهاد في بلاد العرب” ما تُسمّى بعملية “ردع العدوان” التي قادتها “هيئة تحرير الشام” بمعيّة العشرات من الفصائل الجهادية السلفية من القوقاز وآسيا الوسطى والألبان والعرب، حتى أنّ بعض مشاهد الفيديو التي نشرها بعض عناصر هذه الجماعات قد أظهرت حمل بعضهم لرموز داعش وترديد شعاراته، خاصة أنّ التنظيم له حضور قوي في هذه المنطقة؛ وما يشير إلى ذلك هو مقتل ثلاثة من كبار زعماء التنظيم في المنطقة بضربات للتحالف الدولي في أوقات سابقة.
وجدير بالذكر أنّ المتطرّفين الأتراك قد صعّدوا من حملاتهم الدعائية حول حلب كجزء من دولتهم، وكان أبرزها هاشتاغ (حلب الولاية رقم #82) التي أطلقتها “إسراء أردوغان” (ابنة الريس التركي) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المقابل؛ أصدرت إدارة العمليات العسكرية لحملة ما تُسمّى “ردع العدوان” عدّة بيانات أظهرت فيها “موقفاً عربياً” في خطاب موجّه إلى الحكومة العراقية، وقد تظاهرت بـ “وطنية سورية” في خطاباتها الموجّهة للداخل، وإبداء الكثير من الفصائل السورية في درعا وريف دمشق وحمص دعمها لها، يُذكَر أنّ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) لها موقف داعم للفصائل العربية في صراع النفوذ مع الفصائل التركمانية في الشمال السوري، خاصة بعد الاشتباكات العنيفة مع فصائل “الجبهة الشامية” الصيف الماضي، وتدخّل الفصائل التركمانية، وبدعم تركيّ، في تحرير “أبو أحمد زكور” (جهاد عيسى الشيخ) القيادي في “هيئة تحرير الشام” في إعزاز بعد اتهامات له بالخيانة، واستمرار تركيا في إدراجها في قائمة الإرهاب واتفاقها مع الروس في سوتشي عام 2018م على تفكيكها، وغيرها من الحوادث.
أيّاً يكن؛ تبقى تركيا، في وضعها الحالي، القوة الأكثر تأثيراً في ملف الشمال السوري، وتمتلك ذريعة دولية لضرب الهيئة المصنّفة على لوائح الإرهاب الدولي، كما أنّ خروج عشرات الآلاف من المدنيّين الكرد من هذه المنطقة، وفرار قوات النظام والفصائل الإيرانية، قد يتسبّب ببروز صراع بين السلفيين (غرفة عمليات ردع العدوان) والإخوان المسلمين (غرفة عمليات فجر الحرية) بعد غياب “العدوّ المشترَك”، وقد يضطرّ الطرف التركي للانحياز الكامل لأحد الطرفَين، وعلى الأرجح سينحاز للطرف الإخواني، وستعمل تركيا على احتلال حلب، على غرار احتلال عفرين، وتنفيذ سياسة تتريك ممنهَجة هناك، إلّا أنّ ما يشكّل تحدّياً أمام هذا المشروع هو وجود عدّة قوى لها استراتيجياتها الخاصة بالمنطقة؛ وهي:
o عدم استعداد السلفيين للتخلّي عن حلب بعد المكاسب التي حقّقوها، ولن يعودوا للتقوقع داخل إدلب مجدّداً.
o انتظار خلايا داعش للصعود مجدّداً وسط التوتّرات التي تشهدها المنطقة.
o مسألة الأمن القومي الروسي والمصالح الجيوسياسية الروسية في المنطقة.
o استمرار الإيرانيين في دعواتهم للانتقام واستعادة السيطرة على حلب بعد الانسحاب المُهين منها.
o هناك مسألة الأمن القومي العربي ومشروع التوسّع الإسرائيلي في المنطقة.
o أهمية الوضع الجيوسياسي للمنطقة في الإستراتيجية الغربية.
وعلى الأغلب؛ فإنّ أيّ صدام قويّ بين مرتزقة تركيا والتنظيمات السلفية حول السيطرة على المنطقة سيأتي بمحاور تحالف مباشرة وغير مباشرة في المنطقة في سياق الصراعات المحلّية والإقليمية والدولية، وسيمتدّ تأثيرها إلى الداخل التركي، وتشير معظم المعطَيات الموجودة على الأرض إلى أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها لن يسمحوا بنشوء بيئة أمنية هشّة في شمال غرب سوريا، تهدّد الأمن القومي الأوروبي أو الإسرائيلي أو الأمريكي أو تؤثّر سلباً على مصالحهم، لذا؛ يبدو أنّ المنطقة مرشّحة لمزيد من التصعيد الذي سيوجّه الأزمة السورية نحو تغيّرات جيوسياسية قد تحوّل سوريا إلى بلد كونفدرالي أو فيدرالي، أو حتى تتسبّب بانقسامها بشكل أعمق.

زر الذهاب إلى الأعلى