مجريات الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط

رغم توضّح بعض الأمور بشكل بطيء في الشرق الأوسط، إلّا أنّه ما زال من الصعوبة بمكان التنبّؤ بما ستؤول إليه الأحداث في قادم الأيام، لكن ما هو متّفق عليه فعلاً هو أنّ الحرب العالمية الثالثة، بشكلها الجديد، قد بدأت بالفعل، وقد بدأت منذ بداية القرن الحالي؛ والأحداث الأخيرة التي اشتعلت في الشمال الافريقي والشرق الأوسط والأدنى، منذ بداية العقد الثاني للقرن الحالي، خير دليل على ذلك، وربّما تُعتبَر أحداث الحادي عشر من أيلول\سبتمبر من عام 2001م، التي اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية، شرارة البداية لإشعالها، ومن ثم تتالت الأحداث، بحسب توقيتها الزمني، من اجتياح أمريكي لأفغانستان عام 2001م، تحت مسمّى محاربة الإرهاب العالمي، والذي حصر في الإسلام الراديكالي المتشدّد في شخص تنظيم القاعدة الذي اتّخذ من “تورا بورا” الأفغانية مقرّاً أساسياً لها، ومن ثم تقسيم العالم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية إلى العالم المنضبط وغير المنضبط؛ في إشارة صريحة إلى القانون الأمريكي المعمول به وهو: (كل مَن ليس معنا فهو ضدّنا)، وبالتالي؛ كان الهدف الثاني هو العراق بعد تمرّد صدام حسين على النظام العالمي القائم بشكله الرأسمالي ذي التوجّه والقطب الأوحد بدون أي منافس عسكري أو اقتصادي، فكان قرار إسقاط حكم البعث في العراق عام 2003م قراراً غربياً (أمريكياً – بريطانياً) بحتاً. هكذا جرت الأمور حتى نهاية عام 2010م، أي؛ مع اشتعال ثورات الربيع العربي أو ربيع الشعوب، التي كانت نتيجة حتمية لابدّ منها؛ بسبب انسداد أفق الحلّ والإصلاح السياسي ضمن قيادات الدول التي اجتاحتها في الشمال الافريقي، والمتمثلة بتونس وليبيا ومصر، ونوعاً ما الجزائر، ومن ثم انتقالها إلى الشرق الأوسط، وخاصةً اليمن وسوريا، بطبيعة الحال فإنّه في المراحل الانتقالية للحكم تسود الفوضى، وعدم القدرة على ضبط المجتمعات ولجم سيول اندفاع الشباب الثائر المطالب بحقوقه الشرعية في مستقبل أفضل.
حرب إسرائيل – غزة:
بطبيعة الحال؛ لم تكن الأجواء في الشرق الأوسط مثالية قبل السابع من تشرين الأول\اكتوبر عام 2023م، لكن ما جرى بالفعل هو الذي “زاد الطين بلة” وعقّد الأمور أكثر ممّا هي مُعقّدة، خاصةً أنّ المحور الداعم لحماس قد وقع في فخّ الولوج المباشر في حرب لا يحتمل عقباها على جميع الأصعدة (السياسية والعسكرية والاقتصادية …الخ)، وبالتالي؛ تم إحراج هذا المحور ما أمكن من قبل المعسكر الغربي؛ فإيران كداعم رئيسي لكل الحركات المرتبطة بها، إيديولوجياً وعقائدياً، أصبحت في وضع لا تُحسد عليه، وبالتالي؛ فإنّ أيّ خطأ في اتّخاذ القرار الحاسم إزاء الحرب الشاملة من عدمه ربّما لا يكون في صالحها مع أخذ النقاط التالية في الحُسبان:
- قصف السفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق؛ في إشارة واضحة وصريحة لإيران بإمكانية استهدافها في عقر دارها.
- مصرع الرئيس السابق إبراهيم رئيسي في ظلّ ظروف غامضة، والدلالات المترافقة معها؛ من عدم تمكّن إيران من تطوير التكنولوجيا لديها بما يلزم، والدلالة على عدم تمكّنها من الحماية المطلوبة لرجلها الثاني في الدولة.
- اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على أراضيها؛ في إشارة ودلالة واضحة على الاختراق الأمني الداخلي لديها.
- الاختراق الأمني لحزب الله اللبناني في اختراق (هكر) أجهزته اللاسلكية وعدم التمكّن من ضبطها؛ في دلالات على عدم وجود قوة تكنولوجية فعلية في الحفاظ على قاعدة البيانات الخاصة به.
- التأنّي أو التأخّر في الردّ الإيراني؛ قد يكون ناجمًا – أساساً – عن معرفة إيران بحجمها ووزنها الطبيعي في مواجهة الغرب، وللمحافظة – ما أمكن – على التطوّر الحاصل في برنامجها النووي، كما تجلّى كل ما سبق في تصريح صريح للمرشد علي خامنئي بقوله “ربّما سيخسر حزب الله هذه الجولة، ولكنّه بكل تأكيد سيربح الحرب”، ربّما يكون في إشارة مبطّنة أو مسبقة إلى عدم دخول إيران في أي حرب مباشرة، حتى ولو إلى جانب حزب الله (الذراع الأقوى والأقرب إليها أيديولوجياً وعقائدياً).
حركة حماس الفلسطينية ربّما أدركت بشكل متأخّر مدى المعضلة التي وضعت نفسها فيه، خاصةً في ظلّ إهمال عربي وإسلامي، ولا مبالاة من المجتمع الدولي في خوض مباحثات أو وساطات فعلية أو جدّية لوقف آلة الدمار الإسرائيلية؛ فلم تتعدَّ الأمور تنديدًا هنا وبيانات خجولة هناك.
التصعيد الإسرائيلي في جنوب لبنان:
ربّما حصلت إسرائيل والقيادات العسكرية ورجال الحرب فيها على مزيد من الضوء الأخضر الغربي في توسيع دائرة الحرب جغرافياً في الشرق الأوسط، ويتوضّح ذلك من خلال توجيه إسرائيل منحى ومجريات الحرب باتجاه الشمال الإسرائيلي والجنوب اللبناني، وتركّزت آلة الحرب الإسرائيلية على:
- الاعتماد الكلّي على سلاح الجو في ضرب البنية التحتية والمناطق الحيوية لحزب الله اللبناني.
- خلق مزيد من الفوضى في الشرق الأوسط وفتح جبهات جديدة لإطالة أمد الحرب فيها.
- المزيد من الاستفزاز لإيران ومحاولة جرّها للصراع المباشر، وبالتالي؛ خلق الجو والفرصة لضرب البنية التحتية لمنشآتها النووية.
- الاستفادة من عامل الوقت قبل الانتخابات الأمريكية المرتقَبة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وإمكانية فوز الديمقراطيين فيها، وبالتالي؛ احتمالية فرض ضغوط عليهم لإيقاف الحرب.
في حين أنّ الجانب اللبناني المتمثّل بحزب الله يعتمد على:
- حرب الأرض والأنفاق والاستفادة من التضاريس الجغرافية التي تعيش فيها.
- تعاطف المجتمعات الغربية المدنية مع الحالات الإنسانية والنزوح واللعب على العواطف البشرية.
- خلق نوع من التعاطف الإسلامي والعربي وحشد الطاقات ضدّ الفكر والدين والأيديولوجيا والعقيدة المقابلة.
سوريا في خضمّ كلّ ما يجري حولها:
النظام القائم في دمشق ما زال يقف موقف المتفرّج إزاء كل ما يجري حوله، ويدور في حلقة مفرغة، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور بالنسبة لداعميه في حروبهم، الروس كداعم أساسي له على الصعيد الدولي منشغل ومنهمك بحربه مع الجار الأوكراني والذي تدعمه، بطبيعة الحال، دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا لوجستياً ومعنوياً، وبالتالي؛ فإنّ الجانب الروسي، بشكل عملي، يعيش حالة حرب عالمية (بشكل مبطّن) على أراضيها وأراضي الجار الأوكراني.
أما إيران، في الوقت الحالي، فتعيش في أسوأ حالاتها الدبلوماسية والسياسية الإقليمية والدولية، خاصةً مع ازدياد إحراج إسرائيل لها أمام حلفائها وشركائها المحلّيين (وعلى رأسهم حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني)، وما يرافقه من ضرب موجع للشخص الإيراني بالذات؛ والمتمثّل بمقتل قادتها العسكريين والمستشارين على الأراضي السورية، وخرق مباشر لأجهزة الأمن الإيرانية في عملية اغتيال رئيس المكتب التنفيذي لحركة حماس في وسط عاصمتها.
بسبب انشغال المحورَين واللاعبَين الأساسيَين، فقد تم إهمال ما تُسمّى بعملية التطبيع مع الجار التركي، والتي كانت على أشدّها قُبَيل الانتخابات التركية الأخيرة التي جرت في البلاد في الربيع الماضي، والتي حقّق فيها حزب العدالة والتنمية انتصارًا بطعم الهزيمة، وبالتالي؛ فإنّ الفتور مازال سيّد الموقف ما بين رؤوس النظامَين، ولو على المستوى السياسي والدبلوماسي؛ وما انسحاب الوفد السوري، برئاسة وزير الخارجية، من قمة الوزراء العرب، فور بدء وزير خارجية تركيا كلمته، إلّا خير دليل على تسجيل مواقف سياسية بهذا الصدد.
الوساطة العراقية ما بين النظامين، لحدّ الآن، لم تتعدَّ الصورة النظرية، خاصةً أنّ هناك ملفات عالقة ما بين النظامَين العراقي والتركي أساساً، مثل ملفّات المياه والنقاط العسكرية التركية في جنوب كردستان والتدخّل السافر في الشؤون الداخلية للعراق، وبالتالي؛ فانّ الوساطة العراقية ربّما لا تتعدّى نقل الرسائل ما بين الطرفَين، دون لعب دور ريادي أو أساسي في عملية التقارب.
ومع قرع طبول الحرب في الجنوب اللبناني فإنّ النظام السوري أمام امتحان حقيقي لاستقبال اللاجئين السوريين من الجار اللبناني، خاصةً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية وتدهور العملة المحلية وتدمير كامل للبنية التحتية، وعليه؛ فهل سيتمكّن النظام من التعامل مع الظروف الحالية، وسيحاول التواصّل مع الأطراف الداخلية لإيجاد حلول ممكنة، وبالتحديد إمكانية التواصل مع الإدارة الذاتية الديمقراطية التي تدير شمال وشرق سوريا؟ أم أنّه سيتعنّت – كما كل مرة – ويضع كل مَن يدير شمال وشرق سوريا وشمال غرب سوريا في كفة واحدة وخانة واحدة؛ على أنّها حركات إرهابية ومتعاملة ومتآمرة مع الغرب ودول الاحتلال، ويفتح أسطوانته المشروخة في حشد الطاقات ضدّ التآمر والمحتلّ واللعب على عواطف العروبة… الخ؟
تركيا، كدولة إسلامية وإقليمية، ومواقفها إزاء كلّ ما يجري:
لم يعد خافياً على أحد أنّ تركيا ما بعد الانتخابات الأخيرة لم تعد كما قبلها، خاصةً رئيسها أردوغان، الذي انطفأ بريقه؛ بسبب خساراته المتتالية داخلياً وخارجياً، ويبدو أنّه سيُنهي ما تبقّى من فترة حكمه بهذا المستوى من الفتور السياسي، كان الجانب التركي، وكما في كل مرة، يحاول اللعب على العواطف الإسلامية والمسلمين البسطاء؛ بالتنديد تارةً والتهديد الشكلي تارةً أخرى في لعبة تسجيل المواقف لا أكثر، فهو الآن لم يعد يسجّل حتى تلك المواقف السياسية ضدّ إسرائيل، كما في السابق، ومع اقتراب الذكرى السنوية لحرب السابع من أكتوبر فإنّ تركيا لم تقطع مصالحها الاقتصادية والدبلوماسية مع إسرائيل، ولم تستقبل لاجئاً واحداً ولم ترسل ما يلزم بالشكل المطلوب من مساعدات للفلسطينيين، بل على العكس من ذلك؛ فهي منشغلة بالملف السوري وعملية التطبيع مع دمشق والتخلّص من اللاجئين لديها، ومحاولة التخلّص من المرتزقة المسلّحين في شمال غرب سوريا؛ وذلك بضربهم ببعض بعد فشل إرسالهم إلى كاراباخ وليبيا والنيجر.
الولايات المتحدة الأمريكية وقطر:
اللاعبان الأساسيان في كل الفوضى العارمة في الشرق الأوسط هما الولايات المتحدة (كسيّدة للعالم اقتصادياً وعسكريا)، وقطر (كدويلة استخباراتية للمملكة البريطانية وعميل أوّل في عمليات الوساطة ما بين الأطراف المتصارعة)؛ وما جرى من مفاوضات سرّية على مدار أعوام بين الولايات المتحدة الامريكية وحركة طالبان الأفغانية على أراضيها، خير دليل على ذلك، يرافقه جيش من الإعلام الموجّه بشكل دقيق ومهني لخلق الأجواء لعمليات الحرب ولعمليات السلم، التصعيد والتهدئة، إنّ قطر كدولة إقليمية وذات اقتصاد قويّ ومدعوم غربياً يجعلها تلعب الدور الأساس في كل معضلة تمرّ بها المنطقة.
الولايات المتحدة الأمريكية تعيش حالة “سُبات مرحلي” مع خمول انتخابي رهيب، وتأجيل كل ما هو معلّق إلى ما بعد نتائج الانتخابات الرئاسية، فهل ستكون السنوات الأربع القادمة امتدادًا لسياسة الديمقراطيين التي بدأت مع باراك أوباما، ومن بعده نائبه جو بايدن ومن ثم نائبة بايدن كاميلا هاريس (والتي تبدو أكثر حظوظاً بحسب استطلاعات الرأي لمراكز الأبحاث المختصّة) أم أنّ العالم ربّما سيعيش أربع سنوات من المزاجية الجمهورية في شخص الرئيس السابق دونالد ترامب؟ وعليه؛ ومع الدعم اللامتناهي لإسرائيل (عسكريا ولوجستياً ودبلوماسياً، وحتى ضمن جلسات مجلس الأمن بتفعيل بند الفيتو) فإنّه يتبيّن للعموم أنّ الولايات المتحدة تبدو غير جادّة في لعب دور الوساطة الحقيقية لإنهاء الصراعات الحالية.