د.طه علي أحمد
خبير في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية– مصر
بعد التطوّرات الأخيرة التي شهدها الشمال السوري وسيطرة هيئة تحرير الشام على حلب ومناطق واسعة بشكل متسارع
أجرى مركز روجآفا للدراسات الاسترايجية لقاء مع الدكتور/طه علي أحمد خبير في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية– مصر.
ماذا يكمن وراء التطورات الأخيرة في حلب؟ وهل لها علاقة بالمبادرة العربية؟
لا تنفصل التطورات الأخيرة في حلب عن سلسلة من التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها الأراضي السورية نفسها، فقد تلقَّت إيران، الداعم الإقليمي الرئيس للنظام السوري، والمحور الذي تقوده سلسلةً من الضربات المؤثرة أخيرًا، سواءً على صعيد ما يحدث في الأراضي الفلسطينية منذ اكتوبر 2023، أو ضد حزب الله اللبنانية على مدار الشهور الأخيرة، أو حتى مجموعة الضربات التي وجهتها إسرائيل لإيران نفسها وللنظام السوري على المناطق والمعابر الحدودية مع لبنان في ريف حِمْص الغربي وقد زادت هذه الضربات عن 30 هجوماً في الشهرين الأخيرين فقط، وكان آخرها في 27 نوفمبر المنصرم.
في هذا السياق، ربما يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحريك ملفات عديدة من خلال جماعات متطرفة داعمة له في الداخل السوري مثل هيئة تحرير الشام، فمن جهة يسعى أردوغان لاستقبال الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بأزمات يقدم نفسه من خلالها باعتباره يملك مفاتيح الحل لواحدة من أعقد القضايا الإقليمية في سوريا، وبخاصة مع ميول ترامب للمناورة والضغط التكتيكي على الفاعلين الإقليميين في سياسته الإقليمية كما رأينا خلال أزمة القس الأمريكي في عام 2018 والتي استخدم فيها ترامب الأوراق الاقتصادية كمناورات وضغوط تكتيكية أردوغان.
ومن جهة أخرى يسعى الرئيس للضغط على النظام السوري في دمشق لتحقيق تقدم في ملف التطبيع مع أنقرة، أو فرض المزيد من الحصار على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والضغط على المكون الكردي لاعتبارات قومية تخص الأزمة المحكمة التي تعاني منها الدولة التركية والتي عبَّرت عنها أخيرا مواقف رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي المتحالف مع الحزب الحاكم. كما يرغب أردوغان في دفع المبادرة التركية المعروفة بـ “نموذج حلب” للتحقق وبخاصة في ظل السيولة الأمنية التي تعيشها سوريا أخيراً.
الأمر أيضا لا ينفصل عن التشتت الذي تعانيه روسيا، الداعم الاستراتيجي للنظام في دمشق، على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا وعدم رغبة الرئيس فلاديمير بوتين الاصطدام بالإدارة الأمريكية الجديدة، فضلا عن ميل موسكو للعب دور الوساطة بين سوريا وإسرائيل كما تفعل بين تركيا وإسرائيل.
ما سبق، قد انعكس بدوره على فاعلية النفوذ الإيراني المتراجع إقليميا وفي سوريا لتبدو الأوضاع أكثر قابلية للانفجار كما رأينا أخيرا، وهو ما تستفيد منه في المقام الأول تركيا وإسرائيل اللتان تتشاركان في الأجندة الاسترتيجية على الساحة السورية.
أما فيما يخص المبادرة العربية، فلا يخفى على أحد عدم فاعلية النظام الإقليمي العربي في السياق السوري منذ بداية الأزمة عام 2011 وتحويلها إلى مجلس الأمن وصولا إلى عدم فاعلية جهود لجنة الاتصال العربية التي شكَّلها وزراء الخارجية العرب في مايو 2023، بشأن سوريا والتي لم تسفر عن تقدمٍ سياسي أو أمني.
كيف يمكن أن تتعامل الدول العربية مع التطورات الأخيرة في الأزمة السورية؟
السلوك العربي تجاه الأزمة السورية منذ بدايتها يتسم بالضعف والتشتت الناجم عن التناقض في الأهداف والمصالح بين أعضاء جامعة الدول العربية في هذا الصدد، وقد تجلَّى ذلك عند فشل خطة العمل التي أقرَّها مجلس الجامعة في أكتوبر 2011، وكذا مبادرة الحل التي لم ينصاع لها الرئيس السوري وصولا إلى تدويل الأزمة ونقل ملفها إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة.
ورغم عودة العلاقات بين النظام في دمشق وجامعة الدول العربية اعتباراً من قمة الجامعة في مايو 2023، إلا أن تقدما حقيقيا لم يحدث على مستوى الشروط التي افترضتها الدول العربية كسبيل لاستعادة العلاقات من خلال لجنة الاتصال والمتابعة التي تشكلت لهذا الغرض.
ورغم إعادة الأزمة السورية للاشتعال خلال الأيام الأخيرة، وأيضا رغم استمرار التباين في المواقع العربية بشأن التعامل مع النظام في دمشق، إلا أن الملاحظ أخيرا أنه بالإمكان أن يحصل النظام على بعض الدعم – غير المباشر – من بعض الدول العربية التي تنتابها المخاوف من تمدد النفوذ التركي في سوريا، فضلا عما تمثل عودة هيئة تحرير الشام من إمكانات لعودة التنظيمات المتطرفة للمشهد مرة أخرى، وقد ظهرت بعض المؤشرات على ذلك في الاتصالات التي أجراها بشار الأسد مع الرئيسين الإماراتي والعراقي عشية اندلاع أحداث حلب، فضلا عن الاتصالات التي تقودها إيران من جهة أخرى.
إن ذلك يعني أن الانقسامية سوف تظل إحدى سمات العمل العربي المشترك بشأن القضية السورية كعادتها، أللهم إذا كانت هناك بعض القرارات الصورية أو الشكلية كالإدانة والعقوبات غير المجدية على أقصى تقدير.
أليس ما يحصل في حلب جزءاً من المشروع التركي؟ ألا يشكل ذلك تهديدا للأمن القومي العربي؟ وهل ستقبل الدول العربية بهذا المشروع؟
فيما يخص هذا السؤال المركب يمكن القول بأن الدور التركي فيما يحدث في حلب لا يمكن إنكاره، رغم نفي وزير الخارجية التركي هاكان فيدان انخراط بلاده فيها، إلا أن العمليات العسكرية التي تخوضها تركيا أخيراً والمتواصلة ضد المكونات الكردية، فضلا عن الدعم المؤكد من جانب أنقرة لهيئة تحرير الشام يؤكد على تورط تركيا في التصعيد الأخير، والذي لا ينفصل عن الرغبة التركية في التوسع بداخل الأراضي السورية سواء من خلال مقترح “المنطقة الآمنة”، أو حتى “نموذج حلب” باعتباره مدخلاً اقتصادياً يمكن تحقيقه من خلال الاستثمارات القطرية لاستيعاب أكبر قدر ممكن من اللاجئين الموالين لتركيا في حلب وذلك أملاً في إحداث مخططاً ديمغرافياً يتصل بأجندة تتريك الأراضي السورية سياسياً وإدارياً وثقافياً كما تبين على الأرض خلال السنوات الأخيرة. وبالتالي، تستفيد تركيا في المقام الأول مما يحدث على الأراضي السورية أخيرا.
وفيما يخص التهديدات التي يواجهها الأمن القومي العربي فإنها قائمة بالفعل منذ عام 2011 حيث اقتصر الفاعلون في القضية السورية على أطرافٍ غير عربية سواء في مسار أستانا (الضامنون هم تركيا، إيران، روسيا) أو المسار التابع للأمم المتحدة والمعروف بمسار جينيف، وذلك في ظل عدم فاعلية الجامعة العربية الناتج عن غياب مشروعٍ عربي متفق عليه بشأن الأمن القومي العربي. فتمدد النفوذ التركي في الأراضي السورية والعراقية، فضلا عن تمدد النفوذ الإيراني في العديد من العواصم العربية، بجانب الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين وسوريا ولبنان، إن كل ذلك يؤكد على استباحة الأمن القومي العربي بلا رقيب أو رادع.
وفيما يخص استجابة النظام الإقليمي العربي، يمكن القول بأن الدول العربية لا تمتلك حق الاعتراض على هذه المهددات والانتهاكات وهو ما كشفت عنه تطورات القضية السورية وغيرها على مدار السنوات الأخيرة. وعليه فمن غير المتوقع أن تكون ثمة استجابة متفق عليها، اللهم من خلال بعض القرارات غير الفاعلة، أو حتى التدخلات لدعم أطراف محلية كما كان الحال في السنوات الأولى للأزمة.
هل ستساند الدول العربية – وخاصة بعد الذي حصل في حلب – مناطق شمال وشرق سوريا؟ وكيف يمكن أن تكون تلك المساندة؟
تقديري أن تكون المساندة العربية للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، أو لقوات سوريا الديمقراطية بشكل غير مباشر تجنباً للاصطدام المباشر مع بقية الفاعلين في المشهد السوري مثل النظام في دمشق أو حتى تركيا التي تتشارك الرغبة والسعي لاستعادة العلاقات مع بعض الدول الرئيسية في الإقليم. وبالتالي، فإن أي دعمٍ عربي لمناطق شمال وشرق سوريا، من المتوقع أن يثير تحفظات تركية وإيرانية الأمر الذي يفتح الباب للمزيد من تدخلات أنقرة وطهران، وهو ما يفرض على أي تدخل عربي أن يتخذ – يبدو عليه التوازن وإن شكلياً – حتى لا تبدو الدول العربية أطرافاً في الأزمة.