الشمال السوري المحتل واحتمالية إشراق مشروع الأمّة الديمقراطية

أفرزت الأزمة السورية خلال سنواتها العجاف أربع مناطق في الجغرافية السورية، ولكلّ منطقة أيديولوجيتها الخاصة ونظامها السياسي والعسكري الذي يميّزها عن غيرها، ولبعضها ارتباطاتها الخارجية ونظرتها الخاصة تجاه حلّ الأزمة السورية؛ منطقة النظام المنقسم بين مؤيّد للسياسة الروسية ومؤيّد للسياسة الإيرانية تجاه سوريا، وتشمل شرق الفرات والمنطقة الداخلية والمنطقة الساحلية، أمّا المنطقة الجنوبية فهي ما تزال تشهد توتّرات بين القوى الشعبية والنظام وما ويزال وضعها غير مستقرّ، ومنطقة ما تُسمّى بحكومة الإنقاذ “هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً” في إدلب ذات القبضة الأمنية والأيديولوجية السلفية، ومنطقة ما تُسمّى بالحكومة المؤقّتة في الشمال السوري المحتلّ، ريف حلب الشمالي، وتمثّلها ما يُسمّى بالائتلاف السوري المعارض اسمياً، والفصائل المسلّحة “المرتزقة” فعلياً على الأرض وذات الأيديولوجية الإخوانية، ومنطقة الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، ويمثّلها مجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية، ويتبنّى فيها مشروع “الأمة الديمقراطية”. إلّا أنّ الأقرب إلى الواقع السوري من بين هذه المناطق هي مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، والتي أثبتت نجاحها بفضل مشروع “الأمّة الديمقراطية” القائم على أساس أخوّة الشعوب، وبالرغم من تكالب الأطراف الداخلية والخارجية لإفشال مشروعها الديمقراطي وإنهاء الإدارة الذاتية ومحاولة تفكيك قوات سوريا الديمقراطية، إلّا أنّ الإدارة الذاتية الديمقراطية قد باتت مثالاً يُحتَذى به كأفضل حلّ للأزمة السورية في جغرافية لم تشهد أي استقرار اقتصاديّ أو عسكريّ أو أمنيّ على مدى سنوات الأزمة.
شهدت مناطق الشمال السوريّ المحتلّ توتّرات بين شعوب المنطقة والاحتلال التركيّ، وذلك بعد الحديث عن وجود تقارب بين النظام التركيّ والنظام السوريّ، وخشية أبناء المنطقة من قيام دولة الاحتلال التركيّ بتسليم مناطقهم للنظام السوريّ، وهو ما أثار حفيظة أبناء المنطقة ودفعهم إلى القيام بإحراق علم دولة الاحتلال التركيّ وإحراق الشاحنات التركية، والمطالبة برحيل قوات الاحتلال التركيّ، كما أنّ العنصرية التركية تجاه اللاجئين السوريين وإحراق محلّاتهم وممتلكاتهم كانت سبباً في ردّ أبناء المنطقة تجاه الاحتلال التركي، وضمن هذه الاحتجاجات ظهرت مطالب تدعو قوات سوريا الديمقراطية للتدخّل من أجل إنقاذهم من المخطّطات التركية وحمايتهم من المرتزقة.
هنا يمكن طرح بعض الأسئلة حول الوضع السياسي والعسكري للشمال السوري المحتل؛ ولماذا يخشى الشمال السوري المحتلّ من التطبيع التركي مع النظام؟ وما مصيرهم وما هي الحلول؟
الوضع السياسيّ والعسكريّ للشمال السوريّ المحتلّ:
يسيطر على الشمال السوري المحتلّ، والممتدّ من جرابلس حتى عفرين، إلى جانب منطقتَي كري سبي وسري كانيه سياسياً ما يسمّى بالائتلاف السوري، أو يمكن القول اسمياً، بمعنى لا يمكن لها التدخّل الفعلي في المنطقة، بل السيطرة الفعلية هي للفصائل المسلّحة “المرتزقة” حتى وإن كانت منضوية تحت مسمّى الجيش الوطني التابع للإتلاف السوريّ؛ فلكلّ فصيل منطقة نفوذ خاصة به لا يمكن لأيّ فصيل آخر التدخّل فيها، خاصة أنّ هذه الفصائل تقوم بفرض الاتاوات على مناطقها، وإقامة الحواجز التي تفصل كلّ منطقة عن مناطق الفصائل الأخرى، كما أنّ هذه الفصائل ليست على نفس السويّة في القوة، والتي يمكن ربطها بمدى قربها من “الميت” التركيّ والنظام التركيّ ومدى فعاليتها في تنفيذ الأجندة التركية في المنطقة وفي الخارج (إرسال المرتزقة إلى الخارج لخدمة الأطماع التركية)؛ لذا تشهد المنطقة وبشكل متكرّر نزاعات مسلّحة بين الفصائل لتوسيع مناطق نفوذها. أمّا بالنسبة لما يُسمّى بالائتلاف السوري، والذي يدّعي أنّه الواجهة السياسية للمعارضة السورية في أي حلّ للأزمة السورية، فهو أيضاً مرتبط بالسياسة التركية وأجندتها، ولا تملك أيّ قرار وطنيّ تجاه أيّة أزمة أو مسار سياسيّ يهدف لحلّ الأزمة، وجميع قراراتها مرتبطة بـ”الميت” والنظام التركي. وهو ما يعني أنّ هناك شرخًا كبيرًا بين أبناء المنطقة وإدارتهم السياسية والعسكرية؛ وبالتالي فإنّ أيّ قرار مرتبط بهم لن يكون لصالحهم بقدر ما هو لصالح دولة الاحتلال التركيّ ومرتزقتها من الفصائل المسلّحة؛ وهو ما تبيّن من الأحداث الأخيرة عندما أيّد الائتلاف والمرتزقة السياسة التركية، ولم تقف إلى جانب شعوب مناطقهم، باستثناء بعض الفصائل التي رفضت التقارب التركيّ مع النظام السوريّ، وهذه الفصائل لا تربطها بـ”الميت” التركيّ علاقات قوية، عكس الفصائل الأخرى التي تربطها بـ”الميت” التركيّ علاقات قوية، ووقفت إلى الجانب التركيّ ضدّ شعوب مناطقها.
خشية أبناء الشمال السوريّ المحتلّ من التطبيع:
عانى أبناء الشمال السوريّ وعموم الشعب السوريّ من النظام في سوريا، وقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الحرية والمساواة والديمقراطية، لكنّ انحراف الائتلاف السوريّ وفصائله المسلّحة “والتي تحوّلت إلى مرتزقة تعمل وفق الأجندة التركية” عن مسار الثورة، قد خلق شرخًا كبيرًا بين قيادتها السياسية والعسكرية من جهة وأبناء المنطقة من جهة أخرى؛ منذ التدخّل التركيّ السافر في الأزمة السورية ودعمها للجماعات الإرهابية وتأزيم الأزمة السورية وجعلها بعيدة كلّ البعد عن أي حلّ سياسيّ ينهي معاناة الشعب لسوريّ، فقد كانت دولة الاحتلال التركيّ بزعامة أردوغان تعمل على تنفيذ أطماعها في سوريا، إلّا أنّ فشل مشروعها في إسقاط النظام السوريّ وإقامة نظام إخوانيّ في دمشق قد قلّص من أطماعها واقتصرت على تطبيق “الميثاق الملّي” وتمكّنت من احتلال عفرين عام 2028 وكري سبي وسري كانيه عام 2019م، وعملت على أخذ الضوء الأخضر من الولايات المتحدة للقيام باجتياح جديد بهدف استكمال مشروعها العثمانيّ، إلّا أنّ جميع محاولاتها قد باءت بالفشل حتى الآن، ويقابل هذا الفشل نجاح مشروع “الأمة الديمقراطية”، والذي تبنّته الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، والتفاف مكوّنات المنطقة حول إدارتهم ومشروعهم، إلى جانب تمسّك “التحالف الدولي” بشراكته مع قوات سوريا الديمقراطية، وهذا ما جعل من دولة الاحتلال التركيّ تتبنّى سياسة جديدة؛ وهي التطبيع مع النظام السوريّ لمواجهة مشروع “الأمة الديمقراطية” ومنعه من التمدّد في باقي المناطق السورية.
هذا التقارب بين النظام التركيّ والنظام السوريّ مشروط بانسحاب قوّات الاحتلال التركيّ من الشمال السوريّ، وتسليم المنطقة للنظام، وإعادة المنطقة لما قبل 2011م، وهو ما يعني عودة القبضة الأمنية للنظام وملاحقة أبناء المنطقة؛ هذا التقارب قد وضع الشمال السوريّ ضمن المساومات بين الطرفَين، إلى جانب ارتفاع حدّة العنصرية التركية تجاه اللاجئين السوريين في الداخل التركيّ، ووجود حالة اختناق شعبيّ متراكم نتيجة للتدخّل التركيّ السافر في مناطقهم من قبل الولاة الأتراك، والتغيير الديمغرافيّ وفرض المناهج التركية، كلّ ذلك أدّى إلى ظهور احتجاجات شعبية كبيرة ضدّ دولة الاحتلال التركيّ وإحراق علمها والشاحنات التركية، والمطالبة برحيل القوات التركية ومهاجمة مقرّات الائتلاف السوري ومرتزقته، ورفع شعارات مناهضة لدولة الاحتلال التركيّ، ما أدّى إلى سقوط شهداء بين المدنيين؛ حيث شاركت فصائل ما يسمّى بالجيش الوطني، خاصة مرتزقة الحمزات وسليمان شاه، إلى جانب قوات الاحتلال التركيّ في قمع المحتجّين، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ؛ فقد أصدرت قيادات هؤلاء المرتزقة بياناً أعلنت فيه صراحة وقوفها إلى جانب دولة الاحتلال التركيّ ضدّ أبناء مناطقهم، وأنّهم سيضربون بيد من حديد كلّ مَن يسيء إلى رموز الاحتلال التركي أو يستهدف قواتها، كما أنّ هناك بيانات من معظم قادة المرتزقة بخصوص ذلك، وهو ما أدّى إلى خروج احتجاجات في مدينة “إعزاز” ضدّ فصائل المرتزقة والاحتلال التركيّ، وضد التقارب بين النظامين التركيّ والسوريّ، ورفض رفع الأعلام التركية في المنطقة، واتّبعتها عمليات ملاحقة واعتقال في الشمال السوري طالت عددًا كبيرًا من أبناء الشمال السوريّ وبتهم مُعدّة مسبقًا؛ وهو ما يشير إلى وجود شرخ كبير بين تطلّعات أبناء الشمال السوريّ المحتلّ وأطماع ونوايا المرتزقة والائتلاف السوريّ.
مصير أبناء الشمال السوريّ المحتلّ:
إنّ الأحداث التي حدثت في الشمال السوريّ، وعدد القتلى، ودور وموقف الائتلاف والمرتزقة تجاه الأحداث، ونوايا دولة الاحتلال التركي من التقرّب من النظام السوري المستبدّ، كلّ ما سبق قد أسقط الأقنعة عن وجوههم، وأظهر وجههم الحقيقي تجاه أبناء الشمال السوريّ المحتلّ.
إذاً؛ أبناء الشمال السوريّ المحتلّ باتوا مهدّدين بين طرف يساوم عليه للحصول على صفقات معيّنة تخدم أجندته فقط، ومرتزقة بعيدين كلّ البعد عن تطلّعاتهم كعصًا مسلّطةٍ فوق رؤوسهم، وطرف آخر يرغب بعودة قبضته الأمنية إلى تلك المناطق وعودة نظامه إلى ما قبل 2011م؛ وهو ما يعني أنّ أبناء الشمال السوريّ باتوا أمام خيارين “أحلاهما مرّ”.
إلّا أنّ اللافت هو تصريح قائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” حول الأحداث الجارية في الشمال السوريّ المحتلّ، وذلك من خلال “تغريدة” له: إنّ ما يحدث هي قضية كرامة وطنية واستقلال القرار السوريّ “أهداف أساسية توحّدنا جميعاً”، مستنكراً في الوقت ذاته الاعتداءات على السوريين في ولاية “قيصري” بتركيا، داعياً إلى ضرورة حماية حياة السوريين وكرامتهم، وجدّد قائد قوّات سوريا الديمقراطية ترحيبه باحتضان كلّ سوريّ وطنيّ في مناطق شمال وشرق سوريا، وإنّ” يدنا ما تزال ممدودة لجميع السوريين لإنقاذ بلدنا وشعبنا”.
الحلول أمام أبناء الشمال السوريّ المحتلّ
لم يقف الشعب السوريّ بوجه النظام المستبدّ إلّا للحصول على حياة كريمة وبناء نظام ديمقراطيّ مبنيّ على العدالة والمساواة؛ إلّا أنّ أحلامهم قد “ذهبت أدراج الرياح” بعد قيام قادتهم العسكريين “المرتزقة” وقياداتهم السياسية في الشمال السوريّ المحتلّ بالخضوع كـ “عبيد” لدولة الاحتلال التركيّ، ويعملون على تنفيذ أجنداتها في الداخل السوريّ وخارجها، دون أن يأخذوا تطلّعات الشعب السوريّ بعين الاعتبار، وتقديم مصالحهم الشخصية على مصالح أبناء الشمال السوريّ.
• أبرز الحلول التي يمكنها أن تُخرِج أبناء الشمال السوريّ من واقعهم المرير:

 الحلّ الأول: بقاء الوضع كما هو، وانتظار ما ستؤول إليه الاتصالات والوساطات من أجل التطبيع بين النظامين التركيّ والسوريّ، والنقاط التي سيتم البناء عليها مقابل التطبيع؛ وهذا ما يجعل الشمال السوريّ ينتظر مستقبلاً مجهولاً.
 الحلّ الثاني: المطالبة بهيكلة جذرية للائتلاف السوريّ، وإلغاء عضوية جميع من اتّخذ موقفاً سلبياً تجاه احتجاجات الشمال السوريّ، وتشكيل حكومة وطنية مؤقّتة تعمل من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية في المنطقة، وإبعاد الفصائل المسلّحة عن العمل المدنيّ وتحديد مهامها؛ وهو أمر يتطلّب مواقف جريئة لأعضاء الائتلاف والحكومة المؤقّتة بتقديم استقالاتهم، وتشكيل حكومة وطنية تعمل من أجل السوريين، لمنع حدوث اقتتال داخليّ في المستقبل، إلّا أنّ ارتباط أغلب الأعضاء والمرتزقة مع النظام التركيّ و”الميت” وامتيازاتهم ومصادر ثروتهم، تجعلهم بعيدين عن اتّخاذ هكذا موقف، وبالتالي يتطلّب ثورة شعبية مضادّة لتغيير الوضع السياسيّ والعسكريّ في المنطقة، إلّا أنّ عدم وجود قوّة عسكرية داعمة لها، والموقف الذي تبنّته الفصائل المسلّحة والائتلاف من الاحتجاجات الأخيرة، ووجود قوات الاحتلال التركيّ، كلّ ذلك سيؤدّي إلى إراقة الكثير من دماء أبناء الشمال السوريّ، وقد تنتهي بالفشل.
 الحلّ الثالث: وهو مرتبط بما سيؤول إليه تقارب النظامين، ومن ثم اندلاع ثورة مضادّة ودعوات شعبية من قبل شخصيات وطنية داخلية وخارجية تطالب بتدخّل قوات سوريا الدمقراطية؛ لحمايتهم من الممارسات والانتهاكات التي تقوم بها الفصائل المسلّحة “المرتزقة”، وتعمل معاً على طرد قوّات الاحتلال التركيّ ومرتزقته من مناطقهم؛ وبالتالي انضمام مناطقهم وأبنائهم إلى مشروع “الأمة الديمقراطية” الذي يُعتبَر من أنجع المشاريع الهادفة لحلّ الأزمة السورية، وتحقّق تطلّعات الشعب السوريّ في الحرية والمساواة والديمقراطية، وهذا الحلّ يتطلّب تشكيل مجلس ثوريّ في الداخل والخارج؛ تحسّباً لأيّ اتفاق لا يخدم تطلّعات الشمال السوريّ، والتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية عسكرياً، ومع مجلس سوريا الديمقراطية سياسياً؛ لتحرير مناطقهم من الاحتلال التركيّ وتطهيرها من المرتزقة، ولمنع عودة مناطقهم للنظام السوري المستبدّ، خاصة أنّ هناك أطرافًا وشخصيات وطنية تؤمن بمشروع “الأمة الديمقراطية” وبالإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا كحلّ للأزمة السورية.
فهل سيرى أبناء الشمال السوريّ المحتلّ إشراقة مشروع “الأمة الديمقراطية” في مناطقهم وتنهي معاناتهم؟ أم أنّ مستقبلاً مجهولاً سيكون بانتظارهم وقد تراق فيه الكثير من دماء أبنائهم لرفضهم الممارسات والانتهاكات والنزاعات المسلّحة بين المرتزقة، والتي تشهدها مناطقهم بين الحين والآخر، ولرفضهم للاحتلال التركيّ وسياساته العثمانية في تتريك المنطقة، ولخشيتهم من عودة النظام السوري المستبدّ إلى مناطقهم؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى