نساء الساحل السوري.. بين الرصاص وصمت العدالة

بعد سقوط النظام البعثي واستلام هيئة تحرير الشام السلطة شهدت المناطق الساحلية في سوريا تصاعداً ملحوظاً في أعمال العنف والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وصلت إلى حدّ ارتكاب مجازر جماعية خلال شهر آذار من هذا العام؛ الأمر الذي زاد من تعقيد الأزمة الإنسانية في البلاد. هذه الانتهاكات تُعَدُّ حلقة جديدة في سلسلة المواجهات الدامية التي وقعت بين النظام ومعارضيه قبل الأزمة وبعدها؛ حيث تستمرّ عمليات القتل والتصفية بهدف فرض السيطرة وتصفية الحسابات، دون مراعاة لسلامة المواطنين أو حقوقهم الأساسية، وفي هذا السياق؛ تعرّضت منطقة الساحل السوري لموجات عنيفة من الهجمات المسلّحة التي استهدفت المدنيّين بشكل عام، والطائفة العلوية بشكل خاص؛ الأمر الذي أدّى إلى مقتل وجرح الآلاف، إضافة إلى تدمير البنية التحتية الأساسية.
منذ بداية الانتهاكات في الساحل السوري قامت المنظمات المحلّية والدولية بتوثيق الانتهاكات التي وقعت هناك، والتي تمثّلت بالإعدام الميداني والرمي بالرصاص والعديد من الأساليب الأخرى، مثل الاعتقالات التعسّفية والاستهداف العشوائي للمدنيين والتهجير القسري والخطف وغيرها، وكما أورد المرصد السوري لحقوق الانسان أنّ حصيلة القتلى المدنيين في الساحل السوري تجاوزت 1676 شخصاً، وناشدت منظمات أخرى، مثل منظمة العفو الدولية، السلطة الانتقالية بالتحرّك واتّخاذ الإجراءات اللازمة لوقف هذه المجازر، أمّا الشبكة الكردية لحقوق الإنسان فقد أدانت ما وصفته بـ “جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية ” ضدّ أبناء الطائفة العلوية، مطالبة بتدخّل دولي عاجل لوقف الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين، وكذلك منظمة هيمومن رايتس ووتش أعربت عن قلقها حيال تقرير الانتهاكات الجسيمة ضدّ المدنيين في الساحل السوري، مشيرة إلى ضرورة اتّخاذ إجراءات سريعة لمقاضاة مرتكبي الجرائم، أمّا المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الانسان فقد أعربت أيضاً عن قلقها من أنّ العديد من الحالات قد تكون إعدامات على أساس طائفيّ، ودعت إلى إجراء تحقيقات شفّافة ومحاسبة المسؤولين.
وفي ظل هذه الانتهاكات الدموية كان للمرأة النصيب الأكبر منها؛ حيث تعرّضت النساء في الساحل السوري لأشكال متعدّدة من العنف الجسدي والنفسي، والاحتجاز التعسّفي إلى جانب القتل والتهجير القسري والانفصال عن العائلة، ولقد قمنا في مركز روجآفا للدراسات الاستراتيجية بتوثيق هذه الانتهاكات من خلال شهادات أدلى بها شهود عيان، رأوا ما جرى ونقلوا لنا ما شاهدوه:
السيّدة “شيرين”، رئيسة بعثة الهلال الأحمر الكردي إلى الساحل السوري، تحدثت لنا عن أوضاع الساحل السوري وعن وضع المرأة، فقالت: “إنّ الأوضاع المادية والصحية في الساحل السوري صعبة جداً وتفاقمت أكثر بعد الأحداث الأخيرة، أمّا عن النساء فقد كنّ يعشن حالة من الرعب والخوف من مغادرة المنزل، وهناك المئات من النساء اللاتي فقدن آباءهنّ أو أزواجهنّ أو أولادهنّ أمام أعينهنّ؛ وهذا ما أدّى إلى تدهور حالتهنّ النفسية والمادية والاجتماعية، ما أدّى إلى تحمّلهنّ العبء الأكبر من المسؤولية، ورغم الظروف الأمنية والنفسية التي تعيشها فقد خرجت لتعمل في أعمال شاقّة لتأمين لقمة العيش”. كما تطرّقت السيّدة “شيرين” إلى جرائم وقعت بحق النساء، ومنها حادثة قتل امرأة وطفلها بعدما دخلت عصابة مسلّحة منزلها ورأتها مختبئة في “سقيفة” منزلها، وتم قتلها مع طفلها وتُركا في مكانهما، وبعد أيام تم اكتشاف الجثّتين.
وأضافت شيرين: “في إحدى الجولات نادتنا امرأة مسنّة وتحدّثت لنا عن حادثة قتل أولادها، وكيف أنّ الجثث بقيت مرميّة على الأرض، وأنّها قد وضعت سدّاً من التراب بيدها كي لا يجري الدم، لأنّها لم تجد أحداً في ذلك الوقت ليقدّم لها المساعدة في حمل جثث أولادها ودفنهم.”
وفي الختام نوّهت السيّدة “شيرين” إلى أنّ نساء الساحل السوري طالبن الإدارة الذاتية بإرسال فرق دعم لإعادة تأهيلهنّ وتدريبهنّ على طرق الحماية الذاتية، لما وجدن لدى النساء في مناطق الإدارة الذاتية من القدرة على الدفاع عن أنفسهنّ وتحمّل المسؤولية”.
وفي السياق ذاته؛ تحدّث لنا السيد “خضر دهام”، موفد قناة اليوم إلى الساحل السوري، عن الأوضاع الصعبة التي يشهدها الساحل السوري، فقال: “يعاني الساحل السوري من توتّرات متصاعدة قائمة على أساس ديني وإثني، وهو ما دفع ضريبته المدنيون العزّل، الذين شهدت قُراهم وبلداتهم أحداثاً دامية استمرّت لعشرة أيام، وأضاف أنّ “النساء في هذه المدن والبلدات هنّ أكثر من دفع ضريبة هذه الأحداث؛ حيث فقدن كلّ مُعيل لهنّ وبتن مسؤولاتٍ عن عدد كبير من الأطفال الأيتام في وسط غير مستقرّ أمنياً، علاوة على حجم القهر والضغط النفسي نتيجة فقدان أبناء وآباء وإخوة وأزواج، فحملن مسؤوليات كبيرة واضطررن للعمل بأعمال شاقّة كان يقوم بها الرجال.”
وختاماً نوّه “دهام” إلى أنّ “هذه الأحداث ستنعكس على المرأة المكلومة في الساحل السوري باستمرار”.
أمّا الناشطة “س. ا” من مدينة جبلة فقد تحدّثت لنا عن الانتهاكات التي وقعت بحق النساء بشكل خاص، وذكرت بعض تلك الانتهاكات التي تعرّضت لها النساء في الساحل السوري، فقالت: ” إحدى قريبات زوجي، وبعد مداهمة منزلها وقتل كل أفراد عائلتها، تمكّنت هي من الهرب، وعندما تنبّه العناصر المسلّحة لهروبها قاموا بملاحقتها وإطلاق الرصاص عليها، فأُصيبت لكنّها لم تمت”.
وذكرت حادثة أخرى لامرأة تُدعى “عبير” هي وابنتها كانتا متجهتَين إلى قاعدة حميميم هرباً من العصابات المسلّحة، وتم استهدافهنّ بمُسيَّرة تابعة لتلك العصابات، وأكّدت “س.ا” أنّ كلّ المسيّرات المستخدَمة تركيّة المنشأ، وأنّ تركيا لها اليد الطولى في مجزرة قتل العلويين، وتابعت الحديث عمّا تعرّضت له امرأة أخرى على يد تلك العصابات، حيث قتلوا زوجها في الشارع، ولأنّها كانت شاهدة على حادثة القتل، فقد تم قتلها بعد ملاحقتها بطائرة درون وتحديد موقعها. وخلال حديثها عن الانتهاكات تطرّقت السيدة “س.ا” إلى ما يقوم به العناصر المتواجدون على الحواجز؛ حيث يقومون بسرقة ما تملكه المرأة من ذهب، ويختطفون النساء العلويات ويطالبون ذويهنّ بفدية مالية.
وفي الختام طالبت السيدة “س.ا” بتشكيل لجان دولية للتحقيق في هذه الأحداث، وأفادت أيضاً أنّ اللجنة المشكّلة من قبل حكومة دمشق تطالب ذوي الضحايا أن يقولوا أمام القضاء والإعلام أنّ من ارتكب تلك الجرائم كانوا من فلول النظام.
أمّا السيّد “ط.غ” مواطن من جبلة، فقد قال لنا أيضاً: “إنّ ما حدث في الساحل كان عملاً مخطّطاً له ويستهدف الطائفة العلوية لإبادتها وترهيب مَن بقي منها على قيد الحياة”، وقال أيضاً: “إنّ كل عائلة في الساحل السوري لديها قصة معاناة وألم فَقْدِ أحد أفراد عائلته، ما أستطيع ذكره لكم هو أنّه في يوم 7 مارس\آذار كانت هناك مجموعة من النساء الهاربات مع أطفالهنّ من العصابات المسلّحة، متّجهاتٍ إلى قاعدة حميميم، لكن الطائرات المسيّرة، التي أعتقد أنّها من صنع تركيا وأوكرانيا، لحقت بهنّ وقتلتهنّ مع أطفالهنّ على مداخل القاعدة، ويُرجّح أنّ عدد النساء كان أكثر من 15 امرأة.
وتحدّث لنا أيضاً عن مجموعة أخرى من النساء بعد قتل كلّ الرجال على يد العصابات المسلحة، فتجمّعت تلك النسوة مع مَن بقي من أطفالهنّ، وهربن باتّجاه الغابات فتمّت ملاحقتهنّ ورميهنّ بالرصاص؛ فمات مَن مات منهم ونجا مَن نجا، ولكنّ العصابات المسلّحة لم تكتفِ بذلك، بل قاموا بحرق الأشجار المحيطة للتضييق عليهم فماتوا جميعاً وتمّ العثور على جثثهم. وأضاف “أمّا عن حالات القتل التي رأيناها، وقد تكرّرت، فهي لنساء قُتِلن وهنّ يدافعن عن أبنائهن وأزواجهن، وكل الجثث كانت تدلّ على ذلك؛ بدليل أنّهنّ كنّ يحتضنّ جثث ذويهنّ، وقد تم قتلهنّ لأنّهنّ كنّ شاهدات على مَن نفّذ الجرائم، وعدا عن كل ذلك؛ فهناك قرىً تمّت سرقتها ونهب حتى أبسط ممتلكاتها من الذهب والمواشي والعلف، وحتى المنازل التي كانت تعود لأشخاص من الطائفة العلوية فإنّ العصابات المسلّحة، وبعد أن قتلتهم، استولى عليها عناصرها وكانوا يقولون أنّها غنائم وأنّها محلّلة لنا”.
وأضاف أنّ هناك العديد من حالات الاغتصاب والخطف للنساء، ولكن بسبب البيئة المتحفّظة والعادات والتقاليد لا أحد يجرؤ على الحديث عمّا حصل له، وهناك حالة خطف لثلاث فتيات؛ وهنّ: نورالهدى حسام قاسم من صنوبر جبلة، وبشرى ياسين خلف وروعة يامن إسماعيل، وقد أكّد لنا السيّد “ط.غ” أنّ الفتيات موجودات الآن في مدينة إدلب وتمّ طلب فدية من ذويهنّ لإعادتهنّ.
وفي ختام حديثه أكّد ضرورة تشكيل لجنة دولية لتقصّي الحقائق ومعاقبة مرتكبي الجرائم، كما أكّد أنّ اللجنة المشكّلة من حكومة دمشق لم تقبل بإخراج شهادة وفاة لأهالي الضحايا إلّا بعد توقيعهم على وثائق تثبت أنّ فلول النظام هم الذين ارتكبوا كلّ تلك المجازر، وأنّ حكومة دمشق لا علاقة لها بالانتهاكات والتطهير العرقي الذي حدث.
في خِضَمّ هذا الصراع الذي لا يرحم، يظلّ النصيب الأكبر من التضرّر من حصّة المرأة في الساحل السوري، فهي الأكثر تضرّراً والأقل حضورًا في روايات الحرب الرسمية؛ فبين الاستهداف المباشر والتهجير القسري والانتهاكات الجسيمة، تُسلَب منها حقوقها وتفقد أمانها وكرامتها، كلّ ذل في ظلّ صمت دوليّ مخجِل وعجز داخلي مُريب. وتوثيق هذه الانتهاكات ليس واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا فحسب، بل خطوة أولى نحو العدالة والمساءلة وإعادة الاعتبار لصوت المرأة السورية، الذي لا يزال حاضرًا وشاهدًا على كل ما حدث رُغم محاولات إسكاته.