الإعلان الدستوري في سوريا وإشكالية التمازج بين القومية والدينية

د. لقمان عبدالله

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

مرّت سوريا بتغييرات وتحوّلات منها ما هو جذريّ ومنها ما لم يتجاوز الخطوات الإصلاحية، وتغيّرت أسماء وأنظمة الدولة السورية؛ فمن تشكّلها من عدد من الدويلات الصغيرة إلى تحوّلها لمملكة ثم لجمهورية بمختلف التسميات، ومن الوحدة مع مصر إلى التحوّل لمزرعة لعائلة الأسد، ومن حكم البعث الإقصائي والشوفيني إلى استلام الراديكالية الدينية المتطرّفة والمتزمّتة، عانى الشعب السوري-  خلال تلك المراحل – من كل أشكال القمع والتصفية والإذلال، حتى لم يعد قادراً على اتّخاذ القرار الحقيقي في اللحظات الحسّاسة من تاريخ التحوّل الدستوري؛ والسبب الرئيسي خلف كل تلك التناقضات والتوجّهات الإقصائية إنّما هو غياب التطبيق الحقيقي لحكم الشعب والشفافية العلمية في تطبيق العيش المشترك، وبمعنى تفصيليّ أكبر، هو عزل الدين عن السياسة مع المحافظة على خصوصية كلّ منهما، ولأنّ منطقتنا – بشكل عام – هي امتداد لمناطق مهد الديانات السماوية فإنّنا لن نستطيع إقصاء الدين بشكل جذريّ، وإنّما نستطيع أن نضع له مقاييس تجعله يتناسب مع العيش الديمقراطي الكريم، حيث أنّ مفهوم الديمقراطية في جوهره يتضمّن احترام الأديان والمذاهب والرؤى الفكرية على تنوّعها، شرط ألّا تتناقض مع العيش المشترك وتآخي الشعوب والمكوّنات العرقية والإثنية، وبالرجوع إلى قوله تعالى:  }  لِكُلٍّ جَعلْنا منْكُم شِرْعَةً ومنهاجاً{  تتوضّح الملامح الديمقراطية في الدين الإسلامي عكس ما ينادي به أصحاب الفكر التكفيري وأعداء الدين، الذين يحاولون محاربة الدين الحقيقي، عبر رفع الشعارات البعيدة عن الواقع، وتطبيق شرائع متطرّفة الغاية منها تشويه صورة الدين وترهيب الناس، وكذلك فإنّ السياسة التعصّبية والعنصرية القائمة على تمجيد عِرق معيّن هي أيضاً غير بعيدة عن التطرّف الديني، إن لم نقل إنّها أخطر منه، فهي تستند على استغلال المشاعر القومية الأصيلة لبثّ النعرات العِرقية التي تتحوّل في النهاية إلى كوارث عظيمة تهدّد الأعراق المختلفة بعمليات التطهير العرقي، وذلك خدمة لأجندات وتدخّلات خارجية تؤجّج نار التمييز العرقي وتسعى لاستغلال خيرات تلك البلاد التي تجعل من مكوّناتها وقوداً لنار الحرب الأهلية، فكلّما كان العقد الاجتماعي (الدستور) واقعياً وأقرب إلى الديمقراطية ومراعياً للمفاهيم السامية لحقوق الانسان وبعيداً عن السلطة والتسلّط، كانت بنوده أكثر قابلية للتطبيق على أرض الواقع؛ فجميع النظريات مقبولة نظرياً وتحمل في طيّاتها هوامش ديمقراطية وإنسانية، أمّا التطبيق العملي فهو الذي يثبت مدى فعالية تلك النظريات ومدى ملامستها للواقع لتكون حلّاً للقضايا العالقة.

     لا شكّ في أنّ العقود المتتالية التي مرّ بها المجتمع السوري كانت أحياناً قريبة جداً من تحقيق المفاهيم الإنسانية النبيلة، تبعاً للمرحلة التي استوجبت صياغة تلك العقود، لاسيّما في بدايات التشكيل؛ حيث أنّ النزعات والمفاهيم القوموية لم تكن ذات تأثير كبير على سير العملية السياسية والإدارية في حكم البلاد، فازدهرت الأمّة لتواكب سير التقدّم الحضاري في تلك الحقبة، لكن؛ ومع بروز التطرّف القوموي وتشكيل أحزاب مغلّفة بمظهر ديمقراطي شكلاً وتسميةً، ولكنّها مبطّنة ببُعد قومويّ شوفينيّ مَقِيت، تحوّلت دفّة البلاد إلى اتّجاه احتكار السلطة والانسلاخ من الامتداد القوميّ والدينيّ وحتى الأخلاقيّ، فبرز عقد اجتماعي جديد بعيد كلّ البُعد عن الرؤى والتطلّعات الوطنية، ناهيك عن الإبادات الجماعية على أساس الدين والمذهب والقومية، وكان “البعث” هو فارس المرحلة الذي لم يقبل بشركاء معه وقاد البلاد إلى مستقبل مرعب بدت ملامحه واضحة منذ بدايات القرن الحادي والعشرين لتمتدّ إلى الربع الأول منه؛ هذا الشرخ والانقسام في المجتمع السوري أدّى إلى بروز أفكار وطروحات مبنيّة على السياسة المريضة التي حكمت البلاد وتحوّلت في المنطق إلى بديهيات مسلّمة بها وانحرفت البوصلة عن مسارها القويم، ومع اعتلاء الفكر الراديكالي الديني المتطرّف لسدّة الحكم، تحوّلت بشكل تراجيدي إلى كابوس هزّ جميع أركان الوطن السوري؛ حيث بدا هذا التطرّف واضحاً بعد القيام بعدد كبير من عمليات الإقصاء والتهميش ومحاولة فرض اتّجاه إجباري على عموم المجتمع السوري دون أخذ الوضع الوطني المتهالك على مدى عقود من الزمن بعين الاعتبار، وبدلاً من الأخذ بيده والتوجّه نحو التقدّم والانفتاح، تم جرّه إلى نفق مظلِم عقيم الرؤى والأفكار، مبشّراً بمستقبل غامض تشوبه جميع سيناريوهات الرعب والإرهاب، ولعلّ أوضحها ما قامت به ميليشيات الجولاني، التي تنفّذ أوامر حكومة العدالة والتنمية، من مجازر جماعية وإبادة طائفية بحق أخوتنا من الطائفة العلوية في الساحل السوري بحجّة ملاحقة فلول النظام (كمَن يلاحق نفسه) وكانوا أنفسهم إلى زمن بعيد من فلول ذلك النظام الرجعي؛ وكنتيجة حتمية لما تحتويه أفكارهم الظلامية فقد تم طرح إعلان دستوري أقرب إلى عقد تطرّف دينيّ منه إلى منهاج يُنصِف الشعب المسكين ويعوّضه عن مآسيه الماضية، طبعاً اللجنة الدستورية المكلَّفة بصياغته (الإعلان الدستوري) والحوار الوطني المزعوم ليست هناك حاجة للنقاش حولها؛ كونها من بديهيات مخرجات ذلك الفكر المتطرّف والمتعصّب، لقد بدا الإعلان الدستوري كامتداد واضح للعقد القديم (الدستور) مع تغيير طفيف للطغمة المتسلّطة على البلاد.

فهل يا ترى سنشهد ثورة جديدة كامتداد للثورة الشعبية السلمية في بداياتها، وبالتالي؛ كتابة عقد اجتماعي جديد يتماشى مع الواقع السوري أم أنّنا سنكون أمام حقبة جديدة من التسلّط والاستبداد لننتظر ظروفا موضوعية جديدة تهبّ معها رياح التغيير؟؟!!

زر الذهاب إلى الأعلى