سوريا والعودة إلى المربع الأول

مع بداية القرن العشرين وتصاعد الصراع بين مختلف القوى الراغبة في الهيمنة على المنطقة، ووصول دول منها إلى مرحلة الاضمحلال (كالدولة العثمانية)، كان لا بد من إشعال شرارة الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وإعادة بناء النظام الإقليمي والدولي وفقاً لمخططاتهم واستراتيجياتهم، ولتجنب أي صدام مباشر بينهم بعد انتهاء الحرب عقدت الدول القوية آنذاك والمنتصرة سلفاً (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفياتي وبمشاركة أمريكا أيضاً)، العديد من الاجتماعات السرية والعلنية قبل وأثناء وبعد الحرب، والتي أفضت في النهاية إلى تقاسم منطقة الشرق الأوسط فيما بينهم، وإنشاء دويلات قومية، وهكذا ظهرت الدولة السورية التي كانت من حصة الفرنسيين الذين اتبعوا فيها نفس سياستهم المطبقة في الشرق الأوسط، حيث تم تقسيمها إلى عدة دويلات وهي دولة دمشق 1920، دولة حلب 1920 ، دولة العلويين1920 ، دولة جبل الدروز1921 ، دولة لبنان الكبير1920، ولواء اسكندرون المستقل 1921(1) أما مناطق الجزيرة وبالأخص شمال وشرق سوريا فقد كانت تحت الهيمنة الفرنسية المباشرة.

استمرت هذه السياسة وأسلوب الحكم بين أعوام 1936-1940م، لتنهار فيما بعد غداة تضاؤل نفوذ الفرنسيين بعد تعرضهم لضربات قاصمة خلال الحرب العالمية الثانية على يد المانيا النازية الأمر الذي ساهم في إنهاء احتلالها لسوريا عام 1946. على الرغم من اعلان سوريا لاستقلالها ومحاولتها بناء نظام ديمقراطي إلا أنها أن ذلك لم يتكلل بالنجاح حيث شهدت سلسلة من عمليات الانقلاب العسكري وبعد انسداد العملية السياسية في سوريا حاول القوميون التوحد مع مصر عام 1958 للخروج من الأزمة، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً وحدث الانفصال، وبعد طلك جاء انقلاب آخر قام به البعثيون عام 1963م وطبقوا الأحكام العرفية وقانون الطوارئ (2) لإدارة البلاد، ثم جاء الانقلاب الثاني للبعث عام 1971م، ليتم تأسيس نظام حكم شمولي في سوريا بقيادة النظام السوري الحالي، ومع فشل هذا النظام في حل مشاكل البلاد وممارسة سياسة داخلية استبدادية  انفجرت الأوضاع من جديد في آذار عام 2011م واتجهت البلاد نحو دوامة من العنف والفوضى والدمار، ودخلت البلاد في حالة ما يشبه انقسام جديد وكأنها عادت نحو مربعها الأول.

إن حالة النكوص هذه متعلقة بعدة عوامل موضوعية وذاتية متعلقة بالوضع الجيوسياسي الحالي لسوريا، فالأولى متعلقة بتجاذبات أجندات الدول الفاعلة في الأزمة السورية ورغبتها في إنشاء مناطق نفوذ تابع لها، أما العوامل الذاتية فهي مرتبطة بوصول خطاب الكراهية بين القوى المحلية إلى مستويات خطيرة بفعل الإيديولوجيات العنصرية، القومية والدينية، وفي هذه المرحلة كان النظام التركي حاضراً بقوة، وخاصة موقفه السلبي تجاه القضية الكردية، وفي سياق الأزمة السورية طالما هُدِّد الكرد بالذبح والتهجير، وكان آخرها التهديد التركي لكن بألسنة سورية وبالتحديد من قبل مرتزقته “الجيش الوطني”، الأمر الذي يوحي إلى صعوبة التعايش بين أصحاب هذه الأيديولوجيات المتطرفة.

 بدأت ملامح هذا المشهد – عودة البلاد إلى المربع الأول- منذ اليوم الأول من الأزمة السورية، لكنها ازدادت بشكل أكبر مع مساندة قوى دولية وإقليمية لأطراف الصراع المحلية، وبدء البعض منهم بالتدخل المباشر لمساندة حليفه، وقيام البعض الأخرى باحتلال المنطقة من أجل ضمان ديمومة وجوده على هذه الجغرافية وحتى البقاء فيها إذا سنحت لها الفرصة كالدولة التركية التي تعد من أشد الدول الراغبة في تقسيم الأراضي السورية وتشكيل دولة موالية لها فيها أو اقتطاع أجزاء منها وضمها إلى الدولة التركية على غرار لواء الإسكندرون.

عادةً الإصرار على شيء ما يكون في الواقع مخالفاً للمطلب والهدف الأساسي، وهذا ما يمكن تعميمه على القوى الفاعلة الإقليمية والدولية في الأزمة السورية التي لم تصدر بيان وإلا تخللتها جملة “الحفاظ على سيادة سوريا وعدم تقسيمها”، لكن عند مشاهدة ممارساتهم على الأرض سيتضح بأن كل طرف لا يريد استقرار سوريا، وإنما تسريع عمليات التغيير الديمغرافي وترسيخ التقسيم السياسي فيها، فمثلا يمكن ذكر عدد من الشواهد كدلالة واضحة على سياسية دولية وإقليمية لتكريس حالة الانقسام والتقسيم؛ أولها المقايضات العلنية بين كل من روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري ومعارضته في آستانة وسوتشي، كما أن قبول جميع الأطراف المذكورة بما فيها أمريكا للاحتلال التركي ليس سوء دلالة على السير نحو هذا الواقع، وترتبط سياسة “الباصات الخضراء” والمقايضات الحاصلة في الغوطة والجنوب السوري يهذا الأمر إلى حد كبير، فالرافض للمصالحة مع النظام تم إرساله إلى بيئته الحاضنة في إدلب والبعض منهم تم توطينه في عفرين بعد تهجير أهلها منها؛ ثانيا التفاهمات الحاصلة بين كل من كيري-لافروف في عام 2015و2016م(*) بخصوص الأزمة في سوريا والتأكيد مجدداً على هذه التفاهمات في عام 2018م بعد لقاء جمع بين كل من بوتين وترامب في هلسنكي، والتي ربما قد سارية المفعول إلى الوقت الحالي مع حدوث بعض التغييرات الطارئة خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والتي قد تكون في إطار تقاسم مناطق النفوذ فيما بينهم وإنشاء آلية لعدم التصادم؛ ثالثا الاتفاق الحاصل بين كل من إسرائيل وأمريكا وروسيا في القدس عام 2019م وبمشاركة غير مباشرة من قبل الأردن والتي تمحورت بشكل خاص على التواجد الإيراني وبالأخص عناصر حزب الله بالقرب من الحدود الإسرائيلي والجنوبية لسوريا، والتي أفضت إلى انسحاب القوى المذكورة لمسافة 85 كم، إلا أن ذلك لم يحصل بالشكل المطلوب واستمر تواجدهم هناك، ويمكن إسقاط ما يحصل من توترات مستمرة في الجنوب السوري وفي غرب الفرات في الوقت الحالي وبالأخص في منطقة حلب إلى وجود توافق دولي على المشهد الأخير لسوريا.

لقد أتت الأحداث الأخيرة في حلب لتخالف توقعات الجميع بتعافي النظام السوري وقبول المعارضة لتنازلات كبيرة، ودخلت الأزمة إلى مرحلة سياسية جديدة قد تكون بداية لتقسيم جغرافية البلاد إلى عدة مناطق، كما كانت في بداية نشوئها أثناء فترة الاحتلال (الانتداب) الفرنسي؛ ويمكن تحديد هذه المناطق مع عدم ذكر الحدود الجغرافية لها كون الأحداث الميدانية تتطور بشكل يومي وتتغير خريطة السيطرة من حين إلى آخر، لذلك يمكن تحديد هذه المناطق على الشكل التالي:

  • منطقة تحت حكم بشار الأسد وبدعم روسي وتتمركز بشكل خاص في مناطق اللاذقية وطرطوس وحمص ودمشق.
  • منطقة خاضعة للهيمنة التركية وتحت حكم المعارضة الإسلامية بمختلف توجهاتها وتكون حلب معقلها التي شهدت أمس زيارة للجولاني المصنف على لوائح الإرهاب لدى العديد من الدول دون أي خوف من أي استهداف له، لا بل صرح من على قلعتها بأنه سيحل حركته وسيسلم إدارة المنطقة لمجلس انتقالي الأمر الذي يوحي بوجود تفاهمات دولية وعربية وتركية على تعويم الحركة مقابل بعض من المطالب لعل أبرزها التخلي عن ايديولوجيتها وحل نفسها، بالإضافة إلى تفاهمات أخرى ستتضح عند الوصول إلى تفاهمات جديدة وإيقاف المعارك.
  • منطقة في شمال وشرق سوريا يديرها جميع المكونات بما فيها الكرد ومدعومة من قبل التحالف الدولي وبالأخص أمريكا التي لعبت دور الوسيط في التفاهمات الحاصلة بين هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية في منطقة غرب الفرات التي وصفت في بعض جوانبها بالتفاهمات الاستراتيجية، هذا وقد لعبت دور أيضاً في منع حصول انتهاكات كبيرة بحق الكرد في مناطق غرب الفرات(**) غداة تواصلها مع تركيا ومرتزقتها.

هذا وقد تبرز مناطق نفوذ جديدة وخاصة في منطقة الجنوب السوري التي تشهد توترات مستمرة قد تؤدي إلى قيام إسرائيل بعملية عسكرية برية فيها بالتعاون مع الأردن والفصائل العاملة هناك على أن تدار أمنياً بشكل يضمن أمن إسرائيل، ويتعلق تسارع الأحداث في تلك المناطق بالتواجد الإيراني وطبيعة سلوكهم الذي سيخضع على الأرجح لمراقبة شديدة من قبل الأردن وإسرائيل، لذلك فلا يمكن استبعاد حصول تطورات دراماتيكية في تلك الجغرافية، كما أن الأوضاع المضطربة في منطقة السويداء منذ عدة أعوام وتأسيسهم لمجلس سياسي يمثلهم قد تكون متزامنة مع بدء الأحداث في حلب علماً أن لشيوخهم علاقات جيدة مع كل الأردن وأمريكا.

 يمكن وصف ما يحدث على الساحة السورية بالمقايضات الجيوسياسية في المنطقة، فالأحداث الأخيرة في حلب مرتبط بشكل كبير بما يحصل في غزة وفي لبنان، والتي كان من أبرز تداعياتها التصدع الكبير في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة نتيجة الضربات المؤثرة والمتتالية عليها وعلى وكلائها من قبل إسرائيل والغرب، وكان آخرها خروج حلب من تحت سيطرة ميلشياتها دون مقاومة تذكر، الأمر الذي يشير إلى وجود تفاهمات غير معلنة بين أطراف الصراع في سوريا وعلى رأسها أمريكا التي يبدو أنها ماضية في تحقيق استراتيجيتها على الساحة السورية، والتي أعلن بومبيو (وزير الخارجية الأمريكي السابق) عن قسم منها في عام 2019م من خلال التركيز على القضاء على داعش وطرد أخر جندي إيراني من الأراضي السورية(3) وتنفيذ القرار الدولي 2254.

استناداً إلى التغييرات الحاصلة في المشهد الأمني والسياسي للأزمة على الساحة السورية ستسعى دولة الاحتلال التركي مد عملياتها العسكرية إلى مناطق شمال وشرق سوريا، إلا أن ذلك يعتمد بشكل كبير على التفاهمات الحاصلة بين الأطراف، على الرغم من ذلك تبدو التطورات متسارعة، الأمر الذي يضفي غموضاً على مستقبل البلاد، إلا أن المشهد النهائي لسوريا قد يكون على شكل مناطق نفوذ استناداً إلى الاتفاقيات والتفاهمات الحاصلة منذ بداية الأزمة والمتوافقة مع سياسات الدول المشاركة التي لن تتنازل عن مصالحها وأجنداتها للأطراف الأخرى، لذلك فالوصول إلى تفاهمات فيما بينها سيحدد شكل سوريا المستقبلية التي تبدو أنها تتجه إلى مربعها الأول، علما أن مناطق شمال وشرق سوريا حاولت كثيراً ردم الهوة بين جميع المناطق السورية عبر مبادراتها المستمرة إلا أنها لم تلق ردود إيجابية كون الجميع يريد تطبيق اجنداته التي ستودي بالبلاد إلى مزيد من التقسيم.

  • المراجع:

١. موسوعة المعرفة، الانتداب الفرنسي على سوريا، تاريخ النشر لا يوجد، الرابط الالكتروني:

https://www.marefa.org/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A_%D8%B9%D9%84%D9%89_%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

٢. الموسوعة السياسية، عبدالرحمن أسامه، نشر في2020م، الرابط الالكتروني:

https://political-encyclopedia.org/dictionary/%D8%A3%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%85%20%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%8A%D8%A9

٣. موقع فرانس برس، بومبيو يؤكد أن واشنطن ستعمل بـ”الدبلوماسية” على “طرد آخر جندي إيراني” من سوريا،  نشرت في 2019م، الرابط الالكتروني؛

 https://www.france24.com/ar/20190110-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%A8%D9%88%D9%85%D8%A8%D9%8A%D9%88-%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC-%D9%85%D8%B5%D8%B1

*  بحسب العديد من المحليين والمتابعين للشأن السياسي فقد استمر اجتماع لافروف وكيري عام 2016م لمدة عشر ساعات وهذه مدة طويلة جدا، الأمر الذي يشير على أنهم اتفقوا على الخطوط العريضة لمسار الحل في سوريا ومن بينها مصير بشار الأسد وكيفية مواجهة داعش والإيرانيين وغيرها، كما أنه يعتقد بأن ظهور وتداول مصطلح شرق الفرات وغرب الفرات قد خرج خلال هذه الاجتماعات.

** فبحسب العديد من المحللين للشأن الكردي كان هناك مخطط من قبل تركيا ومرتزقتها لارتكاب مجازر للكرد في غرب الفرات لكن تواصل بلينكن مع تركيا حال دون وقوع مجازر بحق الكرد هناك، علما أنه تم ارتكاب عدد من الانتهاكات ضد بعض العوائل الكردية أثناء خروجهم من مناطقهم.

زر الذهاب إلى الأعلى