حكومة الشرع وإشكالية شرعية السلطة

  • مفهوم السلطة وشرعيتها:

تعاني العلوم الإنسانية بشكل عام من مشكلة المصطلح بسبب تعدّد المناهج واختلاف مجالات الاستخدام، وهناك اعتقاد بأنّ هذه الإشكالية قد لعبت دوراً في تطوّر الديالكتيك وتنامي المعرفة، ومصطلح السلطة لا يشذّ عن هذا الأمر؛ حيث تُشكّل بالنسبة للشعوب المقهورة مصدراً للقلق والخوف، بينما تُشكّل بالنسبة للشعوب التي تنعم بالديمقراطية مصدراً للأمن، وهذا ما يقودنا إلى الافتراض بأنّ السلطة أمرٌ يستند إلى عقيدة ما، وما يوضّح ذلك هو مسألة المصطلحات المركّبة مثل سلطة الدولة وسلطة الحاكم وسلطة الشعب وسلطة القانون وسلطة الدين وغير ذلك؛ وفي هذا السياق تبرز إشكالية أخرى تتمثّل بمفهوم “شرعية السلطة” على الرغم من أنّها قائمة في الأساس على الاتفاق بين الآمِر والمأمور ([1]) وترتكز على اتجاه سياسي أو عقائدي أو لقانون الطبيعة كسلطة الأم أو الأب على العائلة. وتختلف مقاربة المجتمعات تجاهه نتيجة لاختلاف مفاهيم الشرعية والسلطة لديها ([2])، ولدى مراجعة التاريخ السياسي للعديد من الشعوب يمكن ملاحظة أنّ معايير اختيار الحكّام وشروط استمرار سلطتهم مقتبسة، في معظمها، من مبادئ اختيار الزعماء في المجتمع، وكلّ حاكم مضطرّ إمّا أن يرتكز على ميثاق يستمدّ منه شرعيته أو أن يفرض ميثاقاً جديداً خاصّاً به أو أن يقدّم مسوّغاً يبرّر سلطته حتى تكون أوامره مستجابة.

بشكل عام؛ هناك ثلاثة أمور تتوقّف عليها شرعية السلطة لدى البشر منذ المرحلة الميثولوجية، واستنبطت منها فيما بعد نظرياتٍ أو مصادر يستمدّ منها الحكّام شرعية سلطتهم، وهي:

  • نظرية الأساس المقدّس للسلطة (الثيوقراطية) ([3]): وتقوم على أساس أنّ الحاكم ذو طبيعة إلهية، مثل السومريين والفراعنة، أو يستمدّ سلطته من الإله مباشرة (التفويض الإلهي)، مثل ملوك أوروبا في العصور الوسطى، أو أنّه يحظى بالعناية الإلهية بمعنى أنّ الشعب اختاره لأنّه مسيّر بالقدرة الإلهية ولا يحقّ لأحد محاسبته غير الله، مثل الكثير من خلفاء المسلمين. وتلعب المؤسّسة الدينية دوراً حاسماً في منح استمرار الشرعية.
  • نظرية المصدر الشعبي للسلطة: وتقوم على أساس أنّ السيادة بيد الأمة، والاقتراع على أساسها لاختيار الحاكم، وهنا تتفرّع هذه النظرية إلى نظريّتَين:

الأولى: نظرية سيادة الأمة ويكون الاقتراع فيها محصوراً بالنخب التي تمتلك القوة المادية والمعنوية بالاستناد إلى التقاليد الدينية والأعراف التقليدية والعشائرية، كأنظمة الحكم الملكية والإقطاعية، وأحياناً تتداخل مع مسألة “العناية الإلهية” كنظام مبايعة الخليفة في الإسلام؛ وهو الأمر الذي اتبعه تنظيم داعش من خلال إجبار شيوخ العشائر على “مبايعة” أبو بكر البغدادي بعد إعلان سلطته.

والثانية: نظرية السيادة الشعبية التي تستند إلى مشاركة جميع البالغين في انتخاب الحاكم، ويلعب مجلس الشعب أو البرلمان أو ما يشبههما دوراً حاسماً في استمرار الشرعية.

  • مسألة “الزعامة الكاريزمية” وفيها يفرض الحاكم نفسه كمصدر للشرعية، وتتحوّل الأيديولوجيا التي يتبنّاها إلى ميثاق ومصدر للشرعية، إمّا برضى معظم أفراد المجتمع؛ ويُلاحَظ هذا الأمر لدى قادة الثورات ومذلك لدى الأنبياء والقادة المفكّرين الذين يمتلكون القدرة على إلهام وتحفيز الآخرين من خلال الصفات الشخصية والرؤية، أو من خلال إخضاع معظم أفراد المجتمع بالترهيب والإغراء؛ ويلاحَظ هذا الأمر لدى قادة أنظمة الحكم الاستبدادية والدول الفاشية. علماً أنّ معظم النظريات أو المصادر التي يستمدّ منها الحاكم شرعية سلطته هي في الأساس مبادئ وضعتها الزعامة الكاريزمية في الماضي، من كهنة أو فلاسفة أو أنبياء أو قادة عسكريّين بعد انهيار النظام الأمومي، وتحوّلت إلى إرث ثقافي بزعم أنّها شكّلت في زمانها مصدراً للعدالة أو لخلاص شعب ما من ظلم.

بالنسبة لشرعية الدولة؛ فقد حدّدت المادة (1) من اتفاقية مونتيفيديو لحقوق وواجبات الدول([4]) أسس الاعتراف بأي دولة مهما كان شكل نظام الحكم فيها، وتحوّلت إلى جزء أساسي من القانون الدولي، وتنصّ هذه المادة على: “يجب أن تمتلك الدولة كشخص في القانون الدولي المؤهّلات التالية: أ. السكان الدائمون، ب. إقليم محدّد، ج. الحكومة، د. القدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى”؛ الأمر الذي يعني أنّ للدولة ثلاثة أركان وهي: الإقليم (الأرض) والشعب والسلطة، وكلّ ركن مشروط بالآخر، وحدّد كلٌّ من: ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومواثيق المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية مدى شرعية سياسات الدول وأعمالها. إلّا أنّها لا تمتلك موقفاً واضحاً تجاه ظاهرة انقسام الدول أو تشكّل دول جديدة، على غرار تجربة الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغسلافي والسودان.

بشكل عام؛ واستناداً إلى التاريخ السياسي، تجسّد الدولةُ السلطةَ بمفهومها الاستبدادي؛ كونها تمتلك مصادر القوة القادرة على قهر المعارضين في حال استأثر الحاكم بالسلطة، ومعظم الثورات التي ظهرت بهدف تحقيق العدل والعدالة انحرفت نحو الاستئثار بسلطة الدولة؛ الأمر الذي كان سبباً لاندلاع تمرّدات وثورات أخرى، قد يكون ذلك سبباً في ظهور البرلمانات ومجالس الشعب التي تضمّ ممثّلين عن الشعب.

  • سلطة دمشق الجديدة ومعوّقات نَيل الشرعية:

بالنسبة للدولة السورية الحالية؛ هي دولة حديثة نسبياً تم تأسيسها استناداً إلى تقاسم السيطرة على المنطقة من قبل فرنسا وبريطانيا، وأول نظام حكم فيها تمثّل بحكومة الأمير فيصل الذي تذرّع بنسبه القُرَشي وانحداره من عائلة النبيّ محمد (ص)؛ وذلك لتبرير شرعية سلطته وفقاً لنظرية “الأساس المقدّس” للسلطة (التفويض الإلهي) وهو أمر لم يتوفر لدى السلاطين العثمانيّين، وكذلك الفرنسيون، بعد احتلالهم لسوريا، حاولوا تشكيل سلطة شرعية وفي الوقت نفسه موالية لهم وتضمن مصالحهم، وانتهجوا مقاربة نظرية “سيادة الأمّة” من خلال اختيار الزعامات الاجتماعية من الإقطاعيين لإدارة السلطة، ويبدو أنّها لم تنجح في ذلك؛ حيث اندلعت انتفاضات كثيرة في سياق التنافس بين الإقطاعين، كون معظم قادة الانتفاضات كانوا إقطاعيين مثل إبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش وحاجو آغا وغيرهم، وبعد إعلان استقلال سوريا تم اعتماد ما يشبه الديمقراطية لإدارة الدولة السورية([5])، إلّا أنّها لم تدم طويلاً مع بدء مسلسل الانقلابات العسكرية وصعود القوميين المتطرّفين، لتتحوّل الدولة السورية إلى دولة فاشية استمرّت حتى انهيار النظام البعثي في أواخر عام 2024م.

هرب بشار الأسد (رأس النظام البعثي) بتاريخ 2024.12.07 بعد تمكّن مجموعة من فصائل المعارضة في الجنوب السوري من درعا والسويداء والتنف، وبدعم من قوىً دولية (بريطانيا وحلفائها)، من دخول العاصمة دمشق، وذلك بعد أن تولّت قوات سوريا الديمقراطية مهمّة إشغال تنظيم داعش في البادية؛ حيث دخلت قواتها إلى مناطق غربي الفرات وطردت قوات النظام البعثي والفصائل التابعة له، في الوقت الذي كانت فيه “هيئة تحرير الشام” تخوض معارك صعبة في حمص وريفها، وتم بثّ البيان رقم (1) من قبل مجموعة أطلقت على نفسها “غرفة عمليات فتح دمشق” والتي أعلنت سقوط النظام وأمّنت الممثّليات الدبلوماسية الأجنبية ومعظم المؤسّسات الحكومية في العاصمة، وبعد ذلك بيوم دخل قادة الهيئة العاصمة دمشق، وتمّ البدء بعمليات استعراض السلطة وفرضها، كان أبرزها الاجتماع الذي أطلق عليه اسم “خطاب النصر” الذي عُقِد بتاريخ 2025.01.29 والذي أعلن فيه العديد من زعماء الفصائل مبايعتهم لأحمد الشرع كرئيس عليهم، والذي بدوره ألقى في اليوم التالي خطاباً عاماً عبّر خلاله عن نفسه كحاكم جديد لسوريا، واعتبر مراقبون أنّه قد وقع في مغالطة “الاحتكام إلى السلطة” (*) في محاولة لتشريع سلطته.

على الرغم من نيل سوريا شرعيتها كدولة في القانون الدولي، إلّا أنّ معظم أنظمة الحكم التي توالت عليها لم تتمكّن من بناء شرعية مستدامة لنفسها، والآن نصبت “هيئة تحرير الشام” نفسها فوق ركام هذه الأنظمة المتساقطة كسلطة جديدة، فشكّلت حكومة مستنسَخة من “حكومة الإنقاذ”، وهي حكومتها التي كانت تدير مناطق إدلب وريفها التي كانت مدعومة من تركيا، برز ذلك بشكل جليّ من خلال الزيارات المكّوكية للمسؤولين الأتراك إلى دمشق وحلب ومناطق أخرى، ومن خلال التصريحات الودّية للهيئة تجاههم وكأنّهم لا يزالون أصحاب الوصاية عليها، وعلى الرغم من التصريحات المتكرّرة لزعيم الهيئة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) بأنّهم لا يتّبعون عقلية الثورة في بناء الدولة الجديدة، إلّا أنّ الانتهاكات التي ارتُكِبت بحقّ العلويّين والمسيحيّين والمرشدين والموالين للنظام، ومحاولات نزع سلاح الدروز، والتصريحات المبطّنة المعادية تجاه كلّ من الكُرد وقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، في سياق الاستجابة للضغوط التركية، تخالف هذا الموقف تماماً، وتجعل العقلية الفصائلية الموصوفة بعقلية “الثورة” حاضرة بقوة في مقاربة السلطة الجديدة في دمشق تجاه قضايا البلاد وأزماتها، خاصة في ظلّ عدم وجود دستور وطني.

من ناحية أخرى؛ لا تزال البلاد تعيش في أزمتها، وتفتقر العديد من المناطق للأمن والأمان، وهناك قوات أجنبية تنتهك السيادة السورية بشكل ممنهَج وتشنّ اعتداءات على المواطنين؛ فالقوات التركية والفصائل الموالية لها مستمرّة في هجماتها على الأعيان المدنية في شمال وشرق سوريا، وترتكب المجازر والانتهاكات، وتعليقاً على ذلك أكّدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” ([6]) على أنّ “لدى القوات المسلّحة التركية والجيش الوطني السوري سجلّ حقوقي مزرٍ في مناطق شمال سوريا الخاضعة للاحتلال التركي…” واعتبرت المنظّمة أنّ العديد من تلك الانتهاكات ترقى إلى “جرائم حرب”. وزاد تنظيم داعش من نشاطاته مستفيداً من الفراغ الأمني الذي خلّفه سقوط النظام، والاستيلاء على الكثير من مخازن أسلحته، كما تعاني البلاد من أزمة اقتصادية ومالية حادّة؛ فبحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ([7]) “يحتاج نحو 16.7 مليون شخص – نحو ثلثي سكان البلاد – إلى أحد أشكال المساعدة الإنسانية. وهناك سبعة ملايين نازح داخلياً، فيما تستمرّ معدّلات سوء التغذية المزمن في الارتفاع”، وأوضح التقرير أنّ الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد انخفض بنسبة 64% منذ بدء النزاع عام 2011. كما فقدت الليرة السورية حوالي ثلثي قيمتها خلال عام 2023 وحده؛ ممّا رفع معدّل التضخّم الاستهلاكي إلى 40% عام 2024. وسط هذه الأزمات التي تشهدها البلاد، فرض قادة “هيئة تحرير الشام” أنفسهم كأوصياء شرعيّين على سوريا، وصوّروا زيارات الوفود العربية والأجنبية إلى دمشق على أنّها اعتراف بسلطتهم، وبدؤوا بإصدار مراسيمَ وقراراتٍ شملت الأمور الإدارية وفصل عشرات الموظّفين في معظم المؤسسات، وبدأ الإعلامي الموالي بتصوير الحكومة الجديدة كحكومة أمر واقع.

تؤكّد معظم الدراسات والأبحاث السياسية والاجتماعية والقانونية على أنّ شرعية أية سلطة إنّما تستند على ثلاث ركائز؛ وهي الشعب والأرض والسيادة، وهذا ما لا تمتلكه الإدارة الجديدة في دمشق؛ فالشعب ثلثه مهجّر، ومَن تبقّى منقسم في اتجاهات سياسية ويعطي شرعية السلطة للطرف الذي يمثّل اتّجاهه، كما أنّ غالبية السوريين من المسلمين، بمختلف مذاهبهم، ليسوا على مذهب وأيديولوجية هيئة تحرير الشام، هذا عدا عن وجود أتباع الديانة الإيزيدية وكذلك عشرات الطوائف المسيحية، ومن المفترَض أن يكون ولاء الشعب لدستوره الوطني بموجب “عقد اجتماعي”، وهذا غير موجود على أرض الواقع، ولم تعطِ غالبية الشعب موافقتها على السلطة الجديدة من خلال الانتخابات أو عبر نُخَبه السياسية والاجتماعية. أمّا بالنسبة للأرض والإقليم، فمناطق من داخل حدود الدولة السورية خاضعة لاحتلالَين، تركي وإسرائيلي في خرق واضح للمادة (11) من “اتفاقية مونتيفيديو لحقوق وواجبات الدول” (*)، كما أنّ السلطة الجديدة في دمشق عاجزة عن فرض سلطتها على أكثر من ثلثَي البلاد، والتي تشمل الشمال والجنوب السوري والبادية وشمال وشرق سوريا. أمّا السيادة فتستند بشكل رئيسي على الركنَين (الشعب والأرض)، وينظّمها الدستور أو العقد الاجتماعي، وقد عرّفها هوبز بأنّها: “سلطة ذلك الفرد أو تلك الهيئة الذي أو التي تمتلك سلطة الإرادة التي تنازلت عنها الأغلبية في مقابل منح الأغلبية حياة آمنة مطمئنّة”، وتتّفق معظم الديانات على أنّ ضمان العدل والعدالة وتأمين الحماية والحياة الكريمة والرعاية لجميع المواطنين شرط رئيسي لشرعية السيادة وسبب لرضى الله على الحاكم، فمثلاً وضعت الشريعة الإسلامية  “أسساً وضوابط حدّدها القرآن والسُنّة مع وضع الإرادة العامة لأفراد الشعب موضع الاعتبار عند اختيار الحكام أو عزلهم، كما أنّ ذلك كان هو المعيار على وجود السيادة من عدمه…”([8]) ، ورغم مرور أكثر من شهرين على تبوّء قادة “هيئة تحرير الشام” السلطة في دمشق إلّا أنّهم لا يزالون عاجزين عن ممارسة السيادة الوطنية أو الاستجابة لمهام السيادة وسط الفوضى الأمنية التي تشهدها المناطق الخاضعة لسيطرتها، حتى أنّها لم تقدّم أو أنّها لا تمتلك خطّة واضحة لتحقيق السيادة على البلاد أو منع التدخّل الدولي والإقليمي في شؤونه الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من طرح فكرة عقد مؤتمر وطني سوري يجمع جميع السوريين لوضع خطّة لانتشال البلاد من أزماتها، إلّا أنّ الهيئة استعاضت عنه بعقد مؤتمر عاجل تحت عنوان “خطاب النصر” ([9]) في ليلة الأربعاء بتاريخ 2025.01.29، أعلن فيه قادة الهيئة إلغاء كافّة المؤسسات التشريعية والسياسية والأمنية والعسكرية للنظام البعثي، وتنصيب أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) رئيساً للمرحلة الانتقالية في سوريا دون توضيح معالمها ومدّتها، وتفويضه بتشكيل الأجهزة الأمنية والجيش ومجلس الشعب، وسط غياب واضح لمعظم القوى السياسية السورية.

  • سوريا والتأرجح بين دولة المواطنة والدولة الطائفية:

فشل نظام الدولة القومية في سوريا، على مدى أكثر من 70 سنة، في بناء دولة مستقرّة ومزدهرة، والسلطات التي تعاقبت على حكمها لم تتمكّن من تحويلها من كونها دولة مصطنعة إلى وطن للمكوّنات الإثنية والعقائدية التي تعيش فيها من خلال بناء هوية سورية يتبنّاها جميع السوريين، وحتى اللحظة لم تتمكّن المكوّنات من هدم حواجز الخوف والقلق بين بعضها، والتي شيّدها أصحاب الأيديولوجيات المتطرّفة في سياق الصراع على السلطة والثروة منذ مئات السنين، وتعبّر عن هذه الحقيقة هجمات مرتزقة تركيا على كوباني وسدّ تشرين ومنبج وعفرين، والصراعات على السلطة بين تنظيمات داعش والقاعدة وهيئة تحرير الشام وجماعة الإخوان المسلمين وحزب البعث، وخطاب الكراهية الذي تثيره تلك التنظيمات تجاه الكُرد والإيزديين والمسيحيين والعلويين والشيعة والدروز؛ تشير معظم المعطيات السياسية والأمنية والاجتماعية والتاريخية إلى أنّ دولة المواطنة هي الحلّ الأمثل لاستقرار سوريا وتحوّلها إلى دولة مزدهرة، إلّا أنّ الوقائع على الأرض تؤكّد أنّها تتّجه نحو التحوّل إلى “دولة طائفية” خاصة مع تنصيب سلطة جديدة في دمشق دون الاستناد إلى دستور وطني أو استفتاء أو انتخاب أو موافقة النخب السياسية والاجتماعية والروحية للمكوّنات السورية، ومن أبرز المؤشّرات على توجّه سوريا نحو التحوّل إلى دولة طائفية:

  1. فرض “هيئة تحرير الشام” أيديولوجيتها في العقيدة الأمنية للجيش وعلى تدريب قوات الأمن الجديدة في مناطق سيطرتها، وهو ما تم اعتباره تمهيداً لتطبيق الشريعة الإسلامية وفقاً لرؤية الهيئة على كامل سوريا بحسب “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” ([10]) والتي اعتبرت، في تحليل نشرته، أنّ السلطة الجديدة في دمشق احتكرت المؤسسات الأمنية والعسكرية لصالح الطائفة السُّنّية، يأتي ذلك بالتزامن مع إعلان تنظيم “حرّاس الدين” التابع للقاعدة بتاريخ 01.28 حلّ نفسه ([11])، وجاء في بيان نشره على إحدى منصّاته: “أبناء تنظيم قاعدة الجهاد قاموا بنصرة أهل الشام ومساندتهم في إزاحة الظلم عنهم، الانتصار على طاغية من أظلم طواغيت العصر الحديث، ممّا يُعلن عن اكتمال مرحلة من مراحل الصراع بين الحق والباطل” دون تحديد مصير عناصره، وتأتي هذه الخطوة وسط محاولات وزارة الدفاع التي شكّلتها “هيئة تحرير الشام” لتشكيل جيش جديد من الفصائل؛ الأمر الذي يعني أنّ التنظيم سينغمس في الجيش السوري المزمَع تشكيله، وستحذو الفصائل الموالية لتركيا حذوه، وكذلك تنظيم داعش الذي يجيد عمليات الانغماس بدرجة أكبر، خاصة بعد إعلان تنظيم داعش موقفه من السلطة الجديدة في دمشق خلال بيان مصوّر نشره موقع “البتّار” التابع للتنظيم وصف فيه الجولاني بـ”الخائن” وهدّد بإعلان الحرب في حال تطبيق الديمقراطية في سوريا.
  2. تذرّع السلطة في دمشق بالضغوط التركية في عدم وضع خطّة طريق لإشراك الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية في المؤسسات الحكومية، وبنفس الوقت تدرس الاستعانة بتركيا لتأسيس جيشها؛ حيث أعلنت وزارة الدفاع التركية بعد يوم من تنصيب الشرع رئيساً أنّ وفداً عسكرياً تابعاً لها أجرى زيارة إلى سوريا لمناقشة “قضايا الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب” ([12]).
  3. عدم اتّخاذ السلطة لأي موقف تجاه هجمات مرتزقة تركيا على شمال وشرق سوريا، وعدم التدخّل لإيقاف الانتهاكات التي يتعرّض لها الكرد في المناطق المحتلّة في الشمال السوري من قبل تركيا ومرتزقتها.
  4. عدم إصدار أي موقف سياسي جدّي يُطَمْئِن كافّة المكوّنات السورية من غير العرب السُّنّة، وبنفس الوقت لا تلقى سلطتها قبولاً بعدُ من تلك المكوّنات، حتى أنّهم معرّضون في أي لحظة لعمليات عدوانية وانتهاكات للحقوق، وبالفعل يتعرّضون لها عملياً في بعض المناطق في أرياف دمشق وحماه وحمص والساحل وحلب، ولا تزال العشرات من الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تدعم “هيئة تحرير الشام” تبثّ خطاب الكراهية تجاه تلك المكوّنات.
  5. مساعي السلطة الجديدة في دمشق لضمان ديمومة سلطتها؛ من خلال إتباع البراغماتية في سياسة التوازن التي تنتهجها بين تركيا والدول العربية وبين الدول الغربية وحركات الإسلام السياسي، وبين مختلف القوى العسكرية في سوريا، وتحويلها كوسيلة ضغط سياسيّ لحرف أيّ اختلال توازن لصالحها.

إنّ تحوّل سوريا إلى دولة طائفية سيفرض على إدارة دمشق الجديدة خوض حروب في مختلف الجبهات الداخلية والخارجية، وتبدو في الوقت الحالي غير قادرة على خوض هذا الصراع، كما أنّها تدرك طبيعة الصراع الدولي، وهي مطّلعة تماماً على تجربة دولة داعش والتي كانت “هيئة تحرير الشام” جزءاً منها قبل انشقاقها عن التنظيم. لذا؛ من المتوقّع أن تستمرّ إدارة دمشق الجديدة في نهج “المُهادنة” مع الجميع والاستعانة بطرف ضدّ آخر قد يسبّب لها مشكلات، يتجلّى ذلك في صمتها حيال هجمات مرتزقة “الجيش الوطني” ضدّ قوات سوريا الديمقراطية وارتكاب أولئك المرتزقة الانتهاكات بحقّ الكرد، أو الانتهاكات التي ترتكبها الجماعات المتطرّفة بحقّ العلويين والمسيحيين، وطرح نفسها كجهة غير مسؤولة عن ذلك، وبنفس الوقت التظاهر كضامنة للأمن، بالتوازي مع حالة عدم اليقين التي تبرز في تصريحات مسؤوليها تجاه ملفّات محاربة داعش والموقف من كل من: الأمن القومي العربي، وتركيا، وروسيا وإيران والدول الغربية ومسألة تطبيق الديمقراطية وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254؛ حيث لم تتعدَّ المواقف حدود المجاملات والوعود التي يصعب تنفيذها. وبالتالي؛ لا تمتلك الإدارة الجديدة أيّ مبرّر قانوني يخوّلها أن تكون سلطة شرعية في سوريا وقادرة على إصدار قوانين وعقد اتفاقيات باسم الدولة السورية، بدليل فشل محاولات تركيا عقد اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع سوريا، وعدم قدرتها على إقناع مجلس الأمن بكونها سلطة قادرة على ضمان اتفاقية فضّ الإشتباك مع إسرائيل، وعدم اعتماد السعودية لبروتوكول استقبال الرؤساء لدى الزيارة الأولى للشرع إلى الرياض؛ كما أنّ زيارات “الشيباني” الخارجية أدّت فقط إلى إرسال عدّة طائرات تحمل مواد إغاثية إلى دمشق ولا يعلم أحد كيف تم توزيعها، ولم يتمكّن من الحصول على أية منح مالية أو رفع العقوبات أو حلّ الأزمة الاقتصادية، وحتى الآن لم ترضخ للسلطة الجديدة في دمشق أيٌّ من القوى الرئيسية في الساحة السورية المتمثّلة بالإدارة الذاتية في كلّ من شمال وشرق سوريا، وقادة المجتمعات في السويداء ودرعا والساحل، وقسم كبير من المعارضة العلمانية السورية، وبالتالي؛ يجد السوريون أنفسهم أمام مفترَق طرق؛ فإمّا استنساخ محتمَل لنهج الدولة الشمولية الاستبدادية، وهذه المرة بنزعة طائفية، أو بناء دولة المواطنة، أو استمرار الأزمة بوضعها الحالي حتى إشعار آخر، وسيكون العام 2025م كفيلاً بتحديد الاتجاه الجديد الذي ستسير فيه الدولة السورية، وسيكون للمتغيّرات السياسية والاقتصادية والأمنية الإقليمية والدولية ومدى تنظيم القوى الديمقراطية دور في تحديد مسار هذا الاتجاه.

  • المراجع والمصادر
  1. أ.م.د. رعد عبد الجليل؛ مفهوم السلطة السياسية: مساهمة في دراسة النظرية السياسة؛ الناشر: مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية/مجلة دراسات دولية- العدد 37- بلا تاريخ نشر؛ ص127؛ الرابط:

https://political-encyclopedia.org/index.php/library/6856/download

  1. م.د. كوران عزيز محمد كاكني، مفهوم سيادة الدولة في ظل متغيرات النظام الدولي: رؤية تحليلية مستقبلية؛ الناشر: مجلة جامعة الانبار للعلوم القانونية والسياسية- العدد 2/ المجلد 14/ أيلول 2024.
  2. الموسوعة السياسية (الإلكترونية)؛ مفهوم الشرعية – The Concept of Legitimacy؛ تاريخ النشر: 04.26؛ الرابط:

 https://political-encyclopedia.org/dictionary/مفهوم%20الشرعية

University of Oslo/ The Faculty of Law; Montevideo Convention on the Rights and Duties of States; Link:

 https://www.jus.uio.no/english/services/library/treaties/01/1-02/rights-duties-states.html

  1. دستور سوريا الذي وضع في عام 1950م.

* يقع المرء في مغالطة «الاحتكام إلى سُلْطة» ad verecundiam عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنما تكمن المغالطةُ في اعتبارِ السلطة بديلًا عن البيِّنة، أو اتخاذها بينةً من دون البينة! للمزيد انظر: عادل مصطفى؛ المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري؛ الناشر: مؤسسة هنداوي/ يورك هاوس- المملكة المتحدة 2019؛ بلا رقم طبعة.

  1. هيومن رايتس ووتش؛ شمال شرق سوريا: جرائم حرب مفترضة على يد قوات تدعمها تركيا؛ تاريخ النشر: 01.30؛ الرابط:

https://www.hrw.org/ar/news/2025/01/30/northeast-syria-apparent-war-crime-turkiye-backed-forces

  1. موقع أخبار الأمم المتحدة؛ لحظة مفصلية في تاريخ سوريا: إعادة الإعمار والمصالحة، أو الفوضى؛ تاريخ النشر: 01.25؛ الرابط:

 https://news.un.org/ar/story/2025/01/1138521

* تنص المادة (11) على: إن الدول المتعاقدة تنص بالتأكيد كقاعدة لسلوكها على الالتزام الدقيق بعدم الاعتراف بالاستحواذات الإقليمية أو المزايا الخاصة التي تم الحصول عليها بالقوة سواء كان ذلك في استخدام الأسلحة، أو في تهديد التمثيلات الدبلوماسية، أو في أي إجراء قسري فعال آخر. إن أراضي الدولة مصونة ولا يجوز أن تكون موضوعا للاحتلال العسكري ولا لتدابير القوة الأخرى التي تفرضها دولة أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر أو لأي دافع مهما كان مؤقتا.

  1. حنان عماد زهران؛ تشريح مفهوم السيادة؛ الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية؛ تاريخ النشر: 03.27؛ الرابط: https://democraticac.de/?p=59802
  2. بي بي سي عربي؛ السلطات السورية تعلن حل الجيش وتعليق العمل بالدستور وتعيين الشرع رئيساً للبلاد؛ تاريخ النشر: 01.29؛ الرابط:

 https://www.bbc.com/arabic/articles/cwyp1knn3wno

Ahmad Sharawi; Syrian Government Uses Islamic Teaching to Recruit, Train New Security Forces; Foundation for Defense of Democracies (FDD); 28.01.2025; Link:

https://www.fdd.org/analysis/2025/01/28/syrian-government-uses-islamic-teaching-to-recruit-train-new-security-forces/

  1. الحرة؛ إعلان نهاية فرع القاعدة في سوريا.. من هم “حراس الدين”؟؛ تاريخ النشر: 01.29؛ الرابط:

https://www.alhurra.com/syria/2025/01/29/إعلان-نهاية-فرع-القاعدة-في-سوريا-هم-حراس-الدين؟

  1. وكالة الأناضول؛ وفد عسكري تركي يبحث بسوريا الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب؛ تاريخ النشر: 01.30؛ الرابط:

https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/وفد-عسكري-تركي-يبحث-بسوريا-الأمن-والدفاع-ومكافحة-الإرهاب-/3466695

[1] أ.م.د. رعد عبد الجليل؛ مفهوم السلطة السياسية: مساهمة في دراسة النظرية السياسة؛ الناشر: مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية/مجلة دراسات دولية- العدد 37- بلا تاريخ نشر؛ ص127؛ الرابط:

https://political-encyclopedia.org/index.php/library/6856/download

[2] انظر: م.د. كوران عزيز محمد كاكني، مفهوم سيادة الدولة في ظل متغيرات النظام الدولي: رؤية تحليلية مستقبلية؛ الناشر: مجلة جامعة الانبار للعلوم القانونية والسياسية- العدد 2/ المجلد 14/ أيلول 2024.

[3] الموسوعة السياسية (الإلكترونية)؛ مفهوم الشرعية – The Concept of Legitimacy؛ تاريخ النشر: 2021.04.26؛ الرابط:

 https://political-encyclopedia.org/dictionary/مفهوم%20الشرعية

[4]  University of Oslo/ The Faculty of Law; Montevideo Convention on the Rights and Duties of States; Link:

 https://www.jus.uio.no/english/services/library/treaties/01/1-02/rights-duties-states.html

[5] انظر: دستور سوريا الذي وضع في عام 1950م.

* يقع المرء في مغالطة «الاحتكام إلى سُلْطة» ad verecundiam عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلّا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنّما تكمن المغالطةُ في اعتبارِ السلطة بديلًا عن البيِّنة، أو اتّخاذها بيّنةً من دون البيّنة! للمزيد انظر: عادل مصطفى؛ المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري؛ الناشر: مؤسسة هنداوي/ يورك هاوس- المملكة المتحدة 2019؛ بلا رقم طبعة.

[6] هيومن رايتس ووتش؛ شمال شرق سوريا: جرائم حرب مفترضة على يد قوات تدعمها تركيا؛ تاريخ النشر: 2025.01.30؛ الرابط:

https://www.hrw.org/ar/news/2025/01/30/northeast-syria-apparent-war-crime-turkiye-backed-forces

[7] موقع أخبار الأمم المتحدة؛ لحظة مفصلية في تاريخ سوريا: إعادة الإعمار والمصالحة، أو الفوضى؛ تاريخ النشر: 2025.01.25؛ الرابط:

 https://news.un.org/ar/story/2025/01/1138521

* تنص المادة (11) على: إن الدول المتعاقدة تنص بالتأكيد كقاعدة لسلوكها على الالتزام الدقيق بعدم الاعتراف بالاستحواذات الإقليمية أو المزايا الخاصة التي تم الحصول عليها بالقوة سواء كان ذلك في استخدام الأسلحة، أو في تهديد التمثيلات الدبلوماسية، أو في أي إجراء قسري فعال آخر. إن أراضي الدولة مصونة ولا يجوز أن تكون موضوعا للاحتلال العسكري ولا لتدابير القوة الأخرى التي تفرضها دولة أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر أو لأي دافع مهما كان مؤقتا.

[8] حنان عماد زهران؛ تشريح مفهوم السيادة؛ الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية؛ تاريخ النشر: 2019.03.27؛ الرابط: https://democraticac.de/?p=59802

[9] بي بي سي عربي؛ السلطات السورية تعلن حل الجيش وتعليق العمل بالدستور وتعيين الشرع رئيساً للبلاد؛ تاريخ النشر: 2025.01.29؛ الرابط:

 https://www.bbc.com/arabic/articles/cwyp1knn3wno

[10] Ahmad Sharawi; Syrian Government Uses Islamic Teaching to Recruit, Train New Security Forces; Foundation for Defense of Democracies (FDD); 28.01.2025; Link:

https://www.fdd.org/analysis/2025/01/28/syrian-government-uses-islamic-teaching-to-recruit-train-new-security-forces/

[11] الحرة؛ إعلان نهاية فرع القاعدة في سوريا.. من هم “حراس الدين”؟؛ تاريخ النشر: 2025.01.29؛ الرابط:

https://www.alhurra.com/syria/2025/01/29/إعلان-نهاية-فرع-القاعدة-في-سوريا-هم-حراس-الدين؟

[12] وكالة الأناضول؛ وفد عسكري تركي يبحث بسوريا الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب؛ تاريخ النشر: 2025.01.30؛ الرابط:

https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/وفد-عسكري-تركي-يبحث-بسوريا-الأمن-والدفاع-ومكافحة-الإرهاب-/3466695

زر الذهاب إلى الأعلى