هيئة تحرير الشام وسياسة التمدد في المناطق المحتلة
هيئة تحرير الشام وسياسة التمدد في المناطق المحتلة

إنّ ما يجري في الشمال السوري من توسّع لنفوذ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) المصنفة إرهابياً على حساب نفوذ مرتزقة الجيش الوطني التابع للاحتلال التركي بدأ يلفت أنظار العالم وبالأخص الشعب السوري. ويبدو أن ما يستجد على أرض الواقع ليس صدفة إنما هو انعكاس للسياسة التركية الجديدة تجاه الأزمة السورية خاصة بعد الاجتماعات التي جرت مؤخراً بين أردوغان وبوتين ومن جانب آخر مع إيران، ويبدو أن تركيا تحاول بكل الطرق والسبل الحفاظ على الموازنة بين سياستها الداخلية والخارجية، فهناك أزمة داخلية تهدد بقاء أردوغان في السلطة بسبب تدهور الاقتصاد التركي ونقمة الأتراك على تواجد اللاجئين السوريين وعدم تحقيق الجيش التركي لنجاحات استراتيجية في كردستان وروجآفا/الشمال السوري، وبنفس الوقت هناك ضغوط روسية- إيرانية على المناطق التي تحتلها تركيا في غرب الفرات، وهذه الأمور قد تدفع أردوغان إلى قبول صفقات دولية من أجل الحفاظ على السلطة في الانتخابات القادمة؛ ويندرج الطرح التركي بإجراء مصالحة بين المعارضة السورية والنظام السوري في هذا السياق، وهذا الطرح خلق ردود أفعال متضاربة بين صفوف المعارضة، وظهر بينهم من يرفض التسوية النهائية مع النظام بالرغم من الإيعاز التركي لهم ومن جانب آخر هناك إصرار من النظام السوري وداعمه على ضرورة أن يخطو الاحتلال التركي خطوات واقعية من أجل إعادة بناء الثقة معه وبضمانة روسية، بالتزامن مع هذا الأمر بدأت هيئة تحرير الشام بالتمدد في الريف الشمالي لإدلب وحلب الخاضعة لسيطرة مرتزقة الجيش الوطني الفيلق الثالث، وبحسب بعض المصادر المحلية تحاول هيئة تحرير الشام استمالة المواطنين وخاصة السكان الأصليين من الكرد والتظاهر بمظهر المنقذ من انتهاكات أقرانه من الفصائل المرتزقة وافتتحت مكاتب لها تحت مسميات منها (مكتب رد المظالم- ومكتب استقبال الشكاوى- ومكتب حفظ الأمن) وبنفس الوقت فرض الحجاب في بعض المؤسسات العامة كمشفى عفرين وفرض ضريبة على المواطنين تحت مسمى (زكاة المال ) يبدو أنها تحاول استنساخ تجربتها في إدلب في المناطق التي تتمدد فيها، وبنفس الوقت تحاول كسب تعاطف سكان المنطقة من المواطنين والمستوطنين؛ هذه المستجدات طرحت العديد من التساؤلات حول توقيتها والهدف منها خاصة أنها ستتسبب بدخول الشمال السوري في مرحلة جديدة من كافة الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية.
ولدى التمعن في المشهد الأمني والعسكري في تلك المناطق يتبادر إلى الذهن عدة تكهنات لعل أبرزها؛ محاولة إعادة تدوير المعارضة لتتوافق مع ظروف الأزمة السورية الحالية بكافة أبعادها الدولية والإقليمية والداخلية فهناك احتمال كبير لدخول النظام السوري إلى مناطق واسعة من إدلب بهدف السيطرة على معبر باب الهوى على الأقل بالمرحلة الحالية تمهيداً لتمدد أكثر مستقبلاً والبدء بعمليات تسوية واسعة في تلك المنطقة بشكل يخدم تقارب النظام التركي مع النظام السوري في إطار التفاهمات التي تتم بين ضامني آستانا وخلق حالة لجذب الشعب السوري للتسوية وأيضاً تشجيع السوريين داخل تركيا للعودة بهدف تخفيف الاحتقان في الداخل التركي، وبنفس الوقت استثمار استراتيجية بوتين الحالية التي تتركز على ربط سياساته العامة لصالح حربه في أوكرانيا حيث تم عرض اتفاق مغري وهو جعل تركيا مركزاً لتوزيع الغاز الروسي نحو أوروبا، ويبدو أن الصفقات التجارية بين الطرفين هي التي تتحكم بالمسارات الاستراتيجية؛ إلا أن هذه السياسة قد لا تكون متوافقة مع استراتيجية هيئة تحرير الشام الساعية لإنشاء إمارة إسلامية في المنطقة خاصة أنها تعمل على خلق وهم لدى الشعب السوري المهجر إلى شمال غرب سوريا بان الأراضي السورية كلها مصيرها العودة إلى سيطرة حكومة دمشق الأمر الذي يفرض على المهجرين والفصائل المسلحة إجراء عمليات تسوية واسعة بهدف الخلاص بأرواحهم لأن دخول الهيئة المصنفة إرهابياً إلى تلك مناطق قد يعرض المنطقة للقصف من قبل كافة الأطراف (الروس والنظام)، الأمر الذي يجعل المنطقة مرشحة لتطورات عسكرية طارئة.
أما الاحتمال الثاني قد يكمن في وجود أهداف تركية أخرى لمباركة تمدد هيئة تحرير الشام بهدف توحيد هيئة شمال غرب سوريا تحت راية واحدة بعد فشل معظم فصائل المرتزقة في تحقيق أي استقرار في المناطق المحتلة، من أجل استخدامها لضرب مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا وهذا الهدف هو مشترك مع النظام في دمشق بمباركة روسية لفرض أجندات جديدة في الواقع السوري بما يتناسب مع سياستهم في المنطقة، لذا قد تتنازل تركيا عن مناطق ما لصالح النظام السوري وروسيا مقابل عودة العلاقات بين الطرفين وتعزيز تعاونهم المشترك ضد الإدارة الذاتية. إلا أن ما يعيق هذا الأمر هو العداء الإيديولوجي الذي تكنه هيئة تحرير الشام تجاه النظام الروسي والسوري والإيراني وإلى حد ما التركي (الإخواني) لذا يبدو أن هذا الاحتمال خيار تكتيكي أكثر من كونه خيار استراتيجي.
كما يبدو أن هذين الاحتمالين لا يتوافقان نوعا ما مع الموقف الغربي من الأزمة السورية حيث أبدى أحد المسؤولين الأمريكيين قلقه حيال ما يحصل في تلك المنطقة وطالب الاحتلال التركي بإيقاف تمدد الهيئة في المناطق المحتلة الخاضعة لمرتزقة الجيش الوطني، وبنفس الوقت قد تشكل سيطرة هيئة تحرير الشام على تلك المنطقة ذريعة لقوات النظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين لمهاجمة المنطقة في ظل التحشدات العسكرية الكبيرة في جبهات التماس بين الطرفين.
بلا شك سيكون للتغييرات التي تحصل في الشمال السوري تأثير مباشر على مستقبل شمال شرق سوريا أي مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية بشكل خاص وسوريا بشكل عام حيث تشكل هدفاً استراتيجياً لكل من تركيا وروسيا وإيران والنظام والغرب، وليس من المستبعد أن يسعى الاحتلال التركي ومن خلفه (ضامنو آستانا) إلى تهيئة الظروف لهيئة تحرير الشام لمهاجمة قوات سوريا الديمقراطية والضغط على التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب لتقديم تنازلات لتركيا في مدينة منبج والمناطق الأخرى. كما يبدو أن الاحتلال التركي سيحاول وبشتى الوسائل زعزعة استقرار المنطقة وتحقيق أجنداتها في الهيمنة والسعي لضرب الإدارة الذاتية وقواتها العسكرية كلما سنحت له الفرصة لتحقيق ذلك، ولن تمانع هيئة تحرير الشام في أن تكون هي المسيطرة على كامل الشمال السوري وقد تكون عفرين هي البداية.