ديناميات المصالح الجيوسياسية لتركيا في سوريا الجديدة
بين تقويض مشروع الأمة الديمقراطية وترسيخ النفوذ الإقليمي

بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 وسيطرة المعارضة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام، دخلت سوريا مرحلة جديدة من التحوّلات السياسية والجيوسياسية؛ وهذا التطوّر قد عزّز النفوذ التركي في المشهد السوري، خاصة مع الخطاب الدولي الإيجابي تجاه سقوط النظام السابق، وكشف الجرائم الفظيعة التي ارتكبها. ومع ذلك، يبقى مستقبل سوريا الجديدة محفوفًا بالتحدّيات، ولا سيّما في ظلّ استمرار تركيا في تقويض مشروع الأمة الديمقراطية، الذي يضمّ جميع المكوّنات السورية وتمثّله الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بكل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية والأمنية.
أولاً: المصالح الجيوسياسية لتركيا في سوريا الجديدة
1- ضمان الأمن القومي وتقويض مشروع الإدارة الذاتية:
تركيا تعتبر الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي ترفض أنقرة البدء بأي نوع من التواصل معه.
كما ترى تركيا أنّ استمرار مشروع الأمة الديمقراطية، القائم على مبادئ الفيدرالية واللامركزية، يشكّل تهديدًا وجوديًا لوحدة أراضيها؛ بسبب احتمالية تحفيز الكرد في تركيا على المطالبة بحقوق مماثلة.
لذا؛ فإنّ أحد أهداف أنقرة الرئيسية هو القضاء على نموذج الإدارة الذاتية، سواء من خلال العمليات العسكرية المباشرة أو الضغط السياسي عبر المعارضة السورية المدعومة منها.
2- توسيع النفوذ الإقليمي:
منذ اندلاع الأزمة السورية، تسعى تركيا إلى استغلال الفراغ السياسي في سوريا لترسيخ نفوذها كقوة إقليمية، من خلال دعمها لهيئة تحرير الشام وتحويلها إلى قوة سياسية مهيمنة، تأمل تركيا في ضمان وجود حكومة سورية جديدة تتماشى مع مصالحها وأهدافها الاستراتيجية.
كما أنّ السيطرة التركية المباشرة وغير المباشرة على شمال سوريا تعزّز نفوذها الجغرافي والاقتصادي؛ حيث تُحكِم قبضتها على المعابر الحدودية والمناطق الغنية بالموارد.
3- الحدّ من النفوذ الكردي على المستوى الإقليمي:
ترى تركيا أنّ تقويض مشروع الأمة الديمقراطية لا يقتصر فقط على حدود سوريا، بل يتّصل أيضًا بالمشهد الإقليمي العام؛ حيث تخشى أن يشكّل التحالف بين الكرد في سوريا والعراق تهديدًا لتوازن القوى في المنطقة.
4- الاستفادة من الدعم الدولي:
الخطاب الإيجابي من المسؤولين الأمريكيين تجاه سقوط الأسد يعكس فرصة لتركيا لإعادة تشكيل علاقاتها مع القوى الدولية.
ويمكن لأنقرة استغلال هذا الدعم لتقديم نفسها كشريك أساسي في إعادة الإعمار وضمان الاستقرار في سوريا، مع إبراز دورها كحليف غربي ضدّ أي تهديد إرهابي محتمل.
ثانيًا: أدوات تركيا لتقويض مشروع الإدارة الذاتية
1- العمليات العسكرية:
منذ سنوات، نفذت تركيا عدّة عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية؛ احتلت على أثرها مناطق كردية في سوريا، وكانت تلك العمليات بمسمّيات مختلفة مثل: (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)؛ حيث ارتكبت تركيا من خلال هذه العمليات انتهاكات جسيمة وعملت على إحداث التغيير الديمغرافي في مناطق عدّة وفق سياسة ممنهجة “التتريك” واستهدفت مناطق الإدارة الذاتية.
في المرحلة الجديدة، قد تسعى تركيا إلى شنّ عمليات أخرى، مستغلّة غياب الدعم الدولي الواضح للإدارة الذاتية، وتصوير هذه العمليات على أنّها خطوات لحماية أمنها القومي.
2- دعم المعارضة السورية:
تدعم تركيا هيئة تحرير الشام كذراع سياسي وعسكري يمكن أن يواجه قسد على الأرض، ويملأ الفراغ الإداري في المناطق التي تسمّيها “المحرّرة”.
وتسعى أنقرة إلى توظيف المعارضة السورية كأداة لتقويض شرعية الإدارة الذاتية، من خلال تعزيز سردية الوحدة الوطنية السورية مقابل المشاريع الفيدرالية.
3- الضغط السياسي والدبلوماسي:
تعمل تركيا على التأثير في الخطاب الدولي تجاه الإدارة الذاتية من خلال تصويرها ككيان انفصالي مرتبط بالإرهاب، في محاولة لتقليل أي دعم دولي للإدارة.
وتسعى أيضًا إلى توظيف التحالفات الإقليمية (مثل قطر ودول خليجية أخرى) لدعم هذا الخطاب.
4- التحكّم الاقتصادي:
تسعى تركيا إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية في شمال سوريا، مثل المعابر الحدودية والزراعة والنفط؛ وهو ما يضعف اقتصاد الإدارة الذاتية ويزيد من الضغوط على سكانها.
ثالثًا: التحدّيات التي تواجه السياسة التركية
1- ردّ الفعل الدولي:
رغم الدعم الدوليّ لإسقاط نظام الأسد، إلّا أنّ تركيا تواجه انتقادات بشأن تدخّلها في سوريا إذا تصاعدت عملياتها العسكرية ضدّ الكرد أو هيئة تحرير الشام، وفقدت السيطرة على المناطق الخاضعة لنفوذها.
2- التحوّلات داخل المعارضة السورية:
رغم دعمها لهيئة تحرير الشام، فقد تواجه تركيا صعوبة في السيطرة عليها بالكامل، خاصة إذا تبنّت الهيئة أجندة لا تتماشى مع المصالح التركية.
كما أنّ الانقسامات المحتمَلة داخل المعارضة السورية قد تعرقل جهود تركيا لإعادة تشكيل النظام السياسي السوري بما يخدم مصالحها.
4- مقاومة الإدارة الذاتية:
تمتلك الإدارة الذاتية – رغم الضغوط – قاعدة شعبية وعسكرية قد تجعلها قادرة على الصمود في مواجهة التحدّيات التركية.
كما أنّ أيّ دعم دولي مستمرّ لقسد، سواء من الولايات المتحدة أو أوروبا، قد يمنع تحقيق هدف تركيا في القضاء على مشروع الأمة الديمقراطية.
رابعًا: السيناريوهات المستقبلية للمصالح التركية في سوريا الجديدة
1- تعزيز السيطرة العسكرية والإدارية:
قد تستمرّ تركيا في تعزيز وجودها العسكري والإداري في شمال سوريا، مع تحويل هذه المناطق إلى مناطق نفوذ دائم تحت إدارة قوىً مواليةٍ لها.
2- التفاوض مع القوى الدولية والإقليمية:
يمكن لأنقرة أن تسعى للتوصّل إلى تفاهمات مع واشنطن وموسكو حول مصير الإدارة الذاتية، بما يضمن تقويض المشروع الكردي دون مواجهة عسكرية شاملة.
3- تحقيق شراكة اقتصادية وسياسية مع المعارضة السورية:
ستسعى تركيا لتمكين المعارضة السورية الجديدة من تشكيل حكومة مركزية ضعيفة تتماشى مع مصالحها، مع تركيز السلطات الفعلية في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة.
4- الاستفادة من إعادة الإعمار:
عبر تقديم نفسها كضامن للاستقرار، قد تطمح تركيا للعب دور رئيسي في عملية إعادة الإعمار؛ وهو ما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي.
ديناميات الإدارة الذاتية بين الأمل والتحدّيات في مرحلة سوريا الجديدة
تجد الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نفسها في قلب معادلة معقّدة؛ فبينما يمثّل سقوط النظام فرصة لتعزيز مشروع الأمة الديمقراطية، تواجه الإدارة الذاتية تحدّيات داخلية وخارجية قد تعرقل مسيرتها، ومنها:
أولاً: الأمل في مرحلة ما بعد الأسد
1- نهاية نظام مركزيّ قمعيّ:
يشكّل سقوط النظام المركزي في دمشق فرصة تاريخية للإدارة الذاتية لتعزيز نموذجها القائم على الفيدرالية واللامركزية، كما أنّ انهيار سلطة الأسد يفتح المجال أمام إعادة تشكيل نظام سياسي جديد قد يتيح مساحة أكبر لمشاركة الأطراف الفاعلة محلّيًا، بما في ذلك الطرف الكردي.
2- دعم دوليّ مُتزايِد:
لطالما حظيت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الجناح العسكري للإدارة الذاتية، بدعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في محاربة داعش، ومع تغيّر الخطاب الدولي تجاه سوريا الجديدة، قد يكون هناك دعم إضافي للإدارة الذاتية كجزء من مشروع يهدف إلى ضمان الاستقرار في المنطقة.
3- التجربة المؤسساتية الناجحة:
خلال السنوات الماضية، تمكّنت الإدارة الذاتية من بناء مؤسّسات فعّالة في مناطق سيطرتها، تشمل الحكم المحلّي والتعليم والخدمات والمشاركة الفعّالة للمرأة في جميع المؤسّسات.
هذا النموذج قد يُقدَّم كبديل عملي للنظام المركزي السابق؛ الأمر الذي يعزّز فرصها في الحصول على اعتراف سياسيّ أوسع.
4- التنوّع المجتمعيّ:
تمثّل الإدارة الذاتية نموذجًا متقدّمًا للتعايش بين المكوّنات المختلفة (الكرد، العرب، السريان وغيرهم)، وهو ما يمنحها شرعية شعبية وقوة ناعمة يمكن أن تُستخدَم في تعزيز دورها في مستقبل سوريا.
ثانيًا: التحدّيات التي تواجه الإدارة الذاتية
1- الموقف التركيّ العِدائيّ:
ترى تركيا أنّ الإدارة الذاتية هي امتداد لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تعاديه تركيا كونه المناصر الأول للقضية الكردية ضدّ قمع تركيا لحقوق المجتمع الكردستاني.
في ظل سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا، مثل هيئة تحرير الشام، على مناطق واسعة، فقد تتعرّض الإدارة الذاتية لضغوط عسكرية أو سياسية مباشرة.
تركيا قد تسعى إلى تقويض مشروع الإدارة الذاتية من خلال توسيع عملياتها العسكرية أو دعم القوى المعارضة للإدارة الذاتية في المناطق المُسَمّاة بـ”المحرّرة”.
2- عدم وضوح موقف المعارضة السورية:
رغم سقوط الأسد، لم تُظهر المعارضة السورية، بقيادة هيئة تحرير الشام، موقفًا واضحًا تجاه الإدارة الذاتية.
وقد تُصنَّف الإدارة الذاتية ككيان انفصالي من قبل المعارضة الجديدة؛ وهو ما يضعها في مواجهة سياسية وربما عسكرية مع الحكومة المستقبلية.
3- التنافس على الموارد:
مناطق الإدارة الذاتية تحتوي على موارد طبيعية غنية، مثل النفط والغاز والزراعة، وهو ما يجعلها هدفًا رئيسيًا للتنافس الإقليمي والدولي.
قد تواجه الإدارة تحدّيات في الحفاظ على السيطرة على هذه الموارد، خاصّة إذا ما تعرّضت لضغوط من الحكومة السورية الجديدة أو القوى الدولية.
4- التوتّرات الداخلية:
رغم الإنجازات، إلّا أنّ الإدارة الذاتية تواجه تحدّيات داخلية تتعلّق بالمطالب الشعبية لتحسين الظروف المعيشية ومشاركة أوسع في صنع القرار.
قد تشكّل الاختلافات بين المكوّنات المجتمعية تحدّيًا إضافيًا، خاصة إذا ما حاولت أطراف خارجية استغلال هذه الخلافات لزعزعة الاستقرار.
- الموقف الدولي المتغيّر:
رغم الدعم السابق للإدارة الذاتية، إلّا أنّ الموقف الدولي قد يتغير في المرحلة الجديدة إذا ما فضّلت القوى الكبرى تعزيز الاستقرار عبر حكومة مركزية تضمّ جميع الأطراف، في ظل غياب اعتراف رسميّ بالإدارة الذاتية، ككيان سياسي مستقل، يجعلها عُرضة لتقلّبات السياسة الدولية.
ثالثًا: خيارات الإدارة الذاتية في المرحلة الجديدة
1- تعزيز الحوار مع المعارضة السورية:
لضمان دورها في مستقبل سوريا، تحتاج الإدارة الذاتية إلى بناء جسور مع المعارضة السورية الجديدة، والعمل على تقديم نفسها كشريك في بناء نظام سياسي تعدّدي.
2- طلب ضمانات دولية:
يمكن للإدارة الذاتية أن تسعى للحصول على ضمانات دولية لحماية مناطقها من التدخّلات الخارجية، خاصة التركية؛ وقد يتطلّب ذلك تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وكذلك القوى الإقليمية مثل دول الخليج.
3- تعزيز الاستقرار الداخلي:
على الإدارة الذاتية التركيز على تحسين الخدمات، وتعزيز الشرعية المحلّية، وإشراك المكوّنات المختلفة في عملية صنع القرار لضمان استقرارها الداخلي.
4- إعادة تعريف مشروعها السياسي:
بدلاً من التركيز على الفيدرالية كهدف نهائي، يمكن للإدارة الذاتية تقديم مشروعها كمساهمة في إعادة بناء سوريا كدولة تعدّدية لا مركزية؛ وهو ما يخفّف من حدّة المخاوف الإقليمية والدولية.
5- التعاون الإقليمي:
رغم العِداء التركي، إلّا أنّه يمكن للإدارة الذاتية السعي لبناء تفاهمات مع دول إقليمية أخرى، مثل العراق أو إيران، بما يخدم مصالحها ويعزّز موقفها الإقليمي.
رابعًا: السيناريوهات المحتمَلة للإدارة الذاتية
1- الاعتراف السياسي والتكامل في النظام الجديد:
إذا نجحت الإدارة الذاتية في بناء تفاهمات مع المعارضة السورية والمجتمع الدولي، فقد تحصل على اعتراف سياسي بدورها كجزء من نظام لا مركزي جديد.
- التصعيد العسكري:
في حال فشل الحوار السياسي، فقد تواجه الإدارة الذاتية تصعيدًا عسكريًا من جانب تركيا أو المعارضة السورية؛ وهو ما يزيد من الضغط على مناطقها ويهدّد مشروعها السياسي.
- استمرار الوضع الراهن:
قد تستمرّ الإدارة الذاتية في إدارة مناطقها بشكل شبه مستقلّ، دون اعتراف سياسيّ رسميّ، مع الحفاظ على الدعم الدوليّ المحدود.
في الوقت الذي يمثّل فيه سقوط نظام الأسد فرصة كبيرة للإدارة الذاتية لتعزيز مشروع الأمة الديمقراطية، إلّا أنّ التحديات الإقليمية والدولية تجعل الطريق لتحقيق أهدافها محفوفًا بالصعاب. نجاح الإدارة الذاتية يعتمد على قدرتها على المناورة بين الأطراف المختلفة، وبناء تحالفات جديدة، وتحقيق الاستقرار الداخلي، لتصبح جزءًا فاعلًا في مستقبل سوريا الجديدة.
تُظهِر المرحلة الجديدة في سوريا أنّ تركيا تسعى لتحقيق توازن دقيق بين مصالحها الأمنية والجيوسياسية، ورغم أنّ تقويض مشروع الأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية يمثّل أولوية رئيسية لأنقرة، إلّا أنّ نجاحها يعتمد على قدرتها على المناورة بين القوى الدولية، واحتواء التحدّيات الإقليمية، وضمان استقرار المناطق التي تدعمها. في ظل هذه الديناميات، ستظلّ سوريا مسرحًا لتشابك المصالح والصراعات؛ حيث ستسعى تركيا لتحقيق طموحاتها الإقليمية دون الانزلاق في مغامرات قد تكون لها عواقب وخيمة.