أستانا وخفض التصعيد في مَهبّ الريح

شهدت سوريا في الأيام الأخيرة تطوّرات دراماتيكية تتعلّق بانسحاب الجيش السوري من بعض المناطق أمام تقدّم فصائل المعارضة المسلّحة، ممّا أثار تساؤلاتٍ حول مستقبل اتفاقيات أستانا وخفض التصعيد، بالإضافة إلى احتمالات وجود تواطؤ دولي، وخاصة من جانب روسيا، وتأثير ذلك على استقرار النظام في دمشق.
سقوط أستانا: نهاية التفاهمات الدولية
اتفاقيات أستانا التي قادتها روسيا وتركيا وإيران كانت تهدف إلى وضع خارطة طريق لخفض التصعيد وضمان الاستقرار المؤقّت في بعض المناطق السورية، ورغم ذلك يبدو أنّ هذه التفاهمات قد باتت عُرضة للتآكل مع تصاعد التوتّرات الإقليمية.
تشير التحرّكات الأخيرة إلى أنّ روسيا باتت أكثر انشغالاً بأولوياتها الدولية، خاصة في أوكرانيا، ممّا أدّى إلى تراجع اهتمامها بتأمين استقرار سوريا.
تركيا، أحد الأطراف الرئيسية في أستانا، ربّما تكون قد أعادت ترتيب أوراقها بما يتماشى مع مصالحها الوطنية، مُستغلّةً الضعف الروسي لإعادة تأكيد نفوذها في الشمال السوري.
أمّا بخصوص احتمالات تواطؤ روسيّ وإسرائيليّ فمن الصعب تجاهل احتمالية أن يكون انسحاب الجيش السوري من بعض المناطق إنّما هو نتيجة لتفاهمات سرّية روسية مع أطراف دولية.
ومنها إعادة تموضع استراتيجي؛ فقد تكون روسيا تعيد ترتيب أولويّاتها في سوريا لتحقيق مكاسب سياسية على طاولة المفاوضات الدولية، أو ربّما لتوجيه رسالة للنظام السوري بضرورة الامتثال الكامل للتوجهات الروسية.
وربّما تكون روسيا قد رأت أنّ السماح لفصائل المعارضة بالسيطرة على بعض المناطق يقلّل الأعباء العسكرية والاقتصادية المُلقاة على عاتقها.
إسرائيل، من جهتها، قد ترى في هذه التحرّكات فرصة استراتيجية لـ:
تحجيم النفوذ الإيراني: تعتبر إسرائيل انسحاب الجيش السوري من مناطق قريبة من النفوذ الإيراني بمثابة انتصار غير مباشر.
تعزيز الاضطرابات الداخلية: قد ترغب إسرائيل في تفاقم الأزمة الداخلية للنظام السوري؛ وذلك لتقليل تركيزه على دعم حزب الله؛ أو تعزيز النفوذ الإيراني في الجنوب السوري.
احتمالات انقلاب في دمشق
رغم القبضة الأمنية المُحكَمة للنظام السوري، فإنّ تصاعد الأزمات الداخلية والضغوط الخارجية قد يفتح المجال أمام سيناريوهات تغيير مفاجئ.
سيناريو التغيير الداخليّ
تصدّعات داخل النظام: قد تؤدّي الخلافات داخل أركان النظام إلى انقلاب داخليّ يقوده عناصر غير راضين عن الأداء السياسيّ والعسكريّ الحاليّ.
تزايد الاستياء الشعبي: الوضع الاقتصادي الكارثي قد يدفع الشعب للتمرّد، ممّا يُضعف شرعية النظام بشكل كبير.
سيناريو التغيير الخارجيّ
تدخّل روسيّ أو إيرانيّ: إذا ما رأت روسيا أو إيران أنّ النظام الحالي قد بات عبئاً على مصالحهما، فقد تعمدان إلى دعم تغيير القيادة بشكل يضمن استمرار نفوذهما.
ضغوط دولية: قد تسعى الدول الغربية، بالتنسيق مع تركيا وإسرائيل، إلى تشكيل حكومة انتقالية بديلة تعمل على استقرار الوضع وفق رؤيتها.
في هذا السياق؛ تبدو الإدارة الذاتية في موقف دقيق؛ حيث تحافظ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على تواجدها في مناطق مثل الشيخ مقصود والأشرفية، مع تجنّب أي مواجهة مباشرة مع الأطراف المتصارعة.
التأثير على الإدارة الذاتية.
يمكن أن يؤدّي تمدّد الفصائل المعارضة إلى زعزعة الاستقرار في المناطق المحاذية للإدارة الذاتية، خاصة مع احتمالية تصاعد الاشتباكات أو حدوث فراغ أمني قد تستغلّه أطراف أخرى مثل تنظيم داعش أو قوىً إقليمية.
تضع هذه التطوّرات الإدارة الذاتية أمام ضغوط محلّية ودولية. فقد تُتّهم بالتقاعس في حماية سكان المناطق المجاورة أو بالتواطؤ مع النظام السوري، ممّا قد يضعف موقفها السياسي.
كما أنّ الانسحاب السوري وتقدّم المعارضة قد يشجّع تركيا على استغلال الفرصة لشنّ عمليات جديدة ضدّ قسد بحجّة حماية أمنها القومي، ممّا يزيد من تعقيد المشهد.
وتصاعد العنف في المناطق المحاذية قد يؤدّي إلى موجات نزوح جديدة؛ وهو ما يشكّل عبئًا إضافيًا على الإدارة الذاتية من حيث تقديم الخدمات الإنسانية واستيعاب اللاجئين.
أفضل الخيارات لإدارة الوضع الراهن:
1- تعزيز التنسيق العسكري والدفاعي:
تعزيز التواجد الأمنيّ والعسكريّ في المناطق الحدودية والمناطق الحسّاسة لتجنّب أي اختراق أمني أو مواجهات مفاجئة.
إنشاء غرفة عمليات مشتركة بين قسد والقوى المحلية لضمان التنسيق والاستجابة الفورية لأي تهديد.
- الحفاظ على الحياد الإيجابي:
تجنّب التورّط المباشر في الصراع بين المعارضة والنظام السوري لتفادي استنزاف الموارد والانجرار إلى نزاعات لا تصبّ في مصلحة الإدارة الذاتية.
تقديم نفسها كطرف يسعى لتحقيق الاستقرار، وهو ما قد يلقى قبولًا دوليًا ويعزّز موقعها في المفاوضات المستقبلية.
- تفعيل القنوات الدبلوماسية:
التواصل مع القوى الدولية، خصوصًا روسيا والولايات المتحدة، لضمان التزام الأطراف المختلفة بعدم استهداف مناطق الإدارة الذاتية.
الضغط لإعادة تفعيل المفاوضات مع النظام السوري للحصول على اعتراف رسمي بالإدارة الذاتية مقابل دعم استقرار المنطقة.
- الاستعداد الإنساني:
وضع خطة طوارئ لاستيعاب النازحين وتأمين الاحتياجات الأساسية لهم؛ ممّا يعزّز من صورة الإدارة الذاتية كمؤسسة إنسانية قادرة على التعامل مع الأزمات.
- إدارة التحالفات بعناية:
التفاهم مع القوى الكردية الأخرى لضمان وحدة الصف الكردي.
البحث عن نقاط مشتركة مع القوى المحلية الأخرى لتجنّب العزلة السياسية.
إنّ الوضع الراهن يضع الإدارة الذاتية أمام تحدٍّ كبير، يتطلّب منها اتّخاذ خطوات استراتيجية تجمع بين الحذر العسكري، والمرونة السياسية، والتأهّب الإنساني. إنّ الحفاظ على الاستقرار الداخلي مع تقليل الانخراط المباشر في الصراعات الخارجية قد يكون النهج الأمثل لتحقيق توازن يقوّي مشروع الإدارة الذاتية في ظلّ الظروف الراهنة.
تشير الأحداث الأخيرة إلى أنّ سوريا تدخل مرحلة جديدة من الصراع تختلف عن سابقاتها؛ حيث تبدو التفاهمات الدولية، مثل أستانا، على وشك الانهيار. ومع تصاعد الشكوك حول تواطؤ روسيا وإسرائيل، وتزايد الاحتمالات بانقلاب داخلي أو خارجي، فإنّ المشهد السوري مرشّح لمزيد من التعقيد.
المرحلة القادمة قد تكون حاسمة في إعادة تشكيل الخارطة السورية، مع احتمال بروز ترتيبات جديدة قد تُغيّر موازين القوى الإقليمية والدولية.